تدخل الجمهورية التركية مئويتها الثانية على وقع متغيرات كبيرة وأزمات لا تزال تعيشها المنطقة، أبرزها الحرب الإسرائيلية على غزة، إضافة إلى تحديات داخلية تسعى الحكومة التركية لمعالجتها، لتبدأ تركيا عصراً جديداً على وقع تحوّلات دفعت وزير خارجيتها هاكان فيدان للقول، الأربعاء الماضي، إن المنطقة مقبلة إما "على سلام كبير أو حرب كبيرة".
الجمهورية التركية خلفت الدولة العثمانية وأعلن عن تأسيسها وفق مفاهيم وقيم جديدة في 29 أكتوبر/تشرين الأول من العام 1923 من قبل مصطفى كمال أتاتورك ورفاقه العسكريين، لتكون دولة معاصرة تقتبس من الغرب مفاهيمها الجديدة، دولة قومية تطابق المفاهيم التي سادت أوروبا بعد الثورة الفرنسية وتأسيس الدول القومية.
تأسيس الجمهورية التركية وفق المفاهيم الجديدة أجبر الشعب على الانقسام ما بين متمسك بتراثه وماضيه، وما بين أجيال جديدة تربّت على قيم العلمانية الغربية، وهذا الانقسام لا يزال يفرق تركيا بين أبرز كتلتين في البلاد، كتلة محافظة قومية، وكتلة علمانية، ولا يزال تأثير هذا الاستقطاب مستمراً حتى اليوم.
تأسيس الجمهورية التركية
وأفرزت الحرب العالمية الأولى انتهاء حكم الدولة العثمانية، وتقاسمت دول الحلفاء أراضي الدولة المتبقية في المنطقة، فدخلت بريطانيا وفرنسا إلى منطقة سايكس بيكو في بلاد الشام والعراق، ودخلت منطقة الأناضول قوات يونانية وإيطالية غرباً وروسية وأرمنية شرقاً، وفرنسية جنوباً، ودخلت بريطانيا والولايات المتحدة إلى إسطنبول.
بعدها، بدأت مرحلة حرب التحرير التي قادها أتاتورك ليعلن تأسيس الدولة وفق اتفاقية لوزان مع الدول الفائزة في الحرب العالمية الأولى، بحدود تركيا الحالية بقسم كبير، قبيل أن تُضم ولاية هاتاي التي تعرف بلواء إسكندرون في العام 1939 بعد استفتاء نُظّم في اللواء.
استمر وجود حكم الحزب الواحد وهو الشعب الجمهوري حتى العام 1946
ومع تأسيس الجمهورية، استمر وجود حكم الحزب الواحد، وهو حزب الشعب الجمهوري، حتى عام 1946 رغم وفاة أتاتورك في عام 1938. لكن في عام 1946 أُسِّس الحزب الديمقراطي من قبل جلال بايار، لتبدأ فترة وجود المعارضة في البلاد.
في عام 1950، انتهى حكم الحزب الواحد بعد 27 عاماً من الحكم، بعد فوز الحزب الديمقراطي في ذلك العام، ثم في انتخابات عامي 1954 و1957، قبل أن تدخل البلاد في دوامة جديدة هي الانقلابات العسكرية، وأهمها انقلاب عام 1960، وانقلاب آخر في عام 1980، وانقلاب أبيض في عام 1997، وكلها جعلت الجيش يدخل في الحياة السياسية للبلاد، ويعلن نفسه مدافعاً عن قيم الجمهورية العلمانية.
وعلى الرغم من التوقعات بأن عصر الانقلابات ولّى مع تركيا بتعزيز الديمقراطية والمنافسة السياسية، وقعت محاولة انقلاب في 2016، لكن هذه المرة لم تُكلَّل بالنجاح، وتمكنت الحكومة من إخمادها.
وتركت الانقلابات أثراً كبيراً في الحياة السياسية، قبل أن تشهد السنوات الأخيرة استقراراً مع حكم حزب العدالة والتنمية للبلاد المتواصل منذ أكثر من 20 عاماً. وتقول الحكومة إن تركيا وصلت إلى مستوى عالٍ من الحقوق والحريات، على الرغم من انتقادات المعارضة وبعض الدول الغربية.
تحديات داخلية وخارجية أمام تركيا
وتدخل تركيا القرن الجديد في ظل حكم الرئيس رجب طيب أردوغان، الذي فاز مجدداً في انتخابات مايو/أيار الماضي، على الرغم من التطورات الاقتصادية والسياسية السلبية في تركيا والمنطقة، لتدخل البلاد مرحلة جديدة في القرن الجديد بخطط سبق أن أعلن عنها أردوغان قبل نحو عام.
وتعد مسألة حزب العمال الكردستاني والقضية الكردية من أبرز المشاكل الداخلية التي لم تحل بعد، ولا تزال تشكل الهاجس الأمني للبلاد، ولهذا تستمر الحملات العسكرية والأمنية داخل تركيا وفي شمال سورية والعراق. وأقدمت تركيا على شنّ حروب وعمليات عسكرية في سورية لتشكيل منطقة آمنة.
مسألة حزب العمال الكردستاني والقضية الكردية من أبرز المشاكل الداخلية التي لم تحل بعد
وتُعتبر الحرب في سورية واحدة من أبرز المواضيع التي شغلت الرأي العام التركي، خصوصاً مع لجوء أكثر من 4 ملايين إليها ونشوء أزمة تحوّلت إلى ورقة في الصراع السياسي، وهذه المسألة ستبقى حاضرة في الأجندة التركية في الفترة المقبلة.
العمليات العسكرية التركية قادت أيضاً إلى تطوير الصناعات الدفاعية في السنوات الأخيرة، واكتسبت تركيا سمعة جيدة على صعيد صناعة الطائرات المسيّرة، ونجحت منذ 2020 وحتى الآن في قلب نتائج معارك في ليبيا وأذربيجان وسورية، إضافة إلى تصنيع المدرعات والدبابات والمدفعية والذخيرة.
وتمضي أنقرة في خطوات تصنيع المقاتلات والطائرات والسفن الحربية في مسعى للاستقلالية الدفاعية، وهو ما يريح يد أنقرة في العمليات العسكرية المختلفة في المنطقة.
على صعيد العلاقات مع دول المنطقة والعالم، كان لتركيا موقف محايد في الحرب العالمية الثانية جنّبها الاشتباك مع الدول المعنية، ولاحقاً، كانت هناك علاقات محدودة، إذ أدى دورها في الحرب الكورية عام 1950 والخوف من المد الشيوعي للدخول في حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1952 وتمتين العلاقات مع الدول الغربية، وهو ما وفّر لها نفوذاً وحماية أمام الاتحاد السوفييتي ودول العالم. و
عام 1974، وعلى الرغم من اعتراض عدد من الدول، نفذت تركيا عملية عسكرية في شمال قبرص وأسست إدارة حكم لا تعترف سوى أنقرة بها، وهو ما وضع تركيا في مواجهة مع الدول الأوروبية.
ولم تحل المسألة القبرصية حتى الآن، وهي من أبرز الملفات التي تعيق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ومن الواضح أن دخول أنقرة الاتحاد في السنوات المقبلة يبقى صعباً.
هذا الحراك العسكري، ومن منطلق قومي، تواصل مع أذربيجان ودعمها في حربها مع أرمينيا في إقليم ناغورني كاراباخ قبل أكثر من عامين حتى استعادة باكو الإقليم أخيراً. كما أسست تركيا دول منظومة العالم التركي قبل سنوات وعملت على تفعيلها، ودعمت تركمان العراق في كركوك، وكل الأقليات التركية في مختلف الدول.
وكان أردوغان منذ وصوله إلى السلطة عام 2003 قد عمل على إدخال تركيا في مرحلة جديدة من العلاقات في الشرق الأوسط والدول العربية بتصفير المشاكل، ما أدى إلى تعزيز مكانة تركيا في العالم العربي وتحولها إلى نقطة جذب سياحي.
وبعد الربيع العربي (2011)، تحوّل الأمر إلى استقطاب في المنطقة ما بين داعم لثورات الشعوب وداعم للثورات المضادة، واختارت تركيا الانحياز لثورات الشعوب وتدخّلت عسكرياً في سورية وليبيا، قبل فتح صفحة جديدة مع الأنظمة في مصر والإمارات والسعودية.
ما الذي ينتظر تركيا في مئويتها الثانية؟
وتدخل تركيا تحت حكم أردوغان المئوية الجديدة في ظل تطورات كبيرة في المنطقة، أبرزها المتعلقة بالقضية الفلسطينية والحرب الإسرائيلية على غزة، إضافة إلى جمود الملفين السوري والليبي، وتعقّد الأوضاع في العراق.
كما تستمر الحرب الروسية في أوكرانيا، ومحاولات تحقيق خرق في منطقة وسط آسيا عبر العلاقة مع أذربيجان وفتح ممر زنغزور التجاري، الذي سيفتح أبواب القارة الآسيوية أمام تركيا لتكون لاعباً مهماً في حركة الطاقة والتجارة في العالم.
أرسلان: منظمة الدول التركية ستكون محطة مهمة للجمهورية التركية في المئوية الجديدة
وعن أبرز محطات الجمهورية خلال قرن ومكانة أنقرة الحالية، يقول الكاتب غونغور ياووز أرسلان، لـ"العربي الجديد"، إن "أهم محطات المائة عام السابقة يأتي في مقدمتها تأسيس الجمهورية ودخول تركيا إلى حلف الناتو بعد الحرب في كوريا، والانقلابات التي شهدتها تركيا في الستينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ومرحلة ما بعد انقلاب 1997، ما تبعه من تغيرات في السياسة والإقليم، وأخيراً الانقلاب في العام 2016 وانتقال البلاد إلى نظام الحكم الجمهوري".
ويضيف أن "من المحطات المهمة عملية السلام في قبرص عام 1974 والحرب في سورية عام 2011 وتأثر تركيا بها، ومسائل الأمن والتعاون مع أذربيجان، والتوازنات في البلقان ومنظمة الدول التركية".
ويعتبر أن "منظمة الدول التركية ستكون محطة مهمة للجمهورية التركية في المئوية الجديدة"، مشيراً إلى أن "هناك متغيرات في المنطقة، وواضح ذلك في مسألة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وإلى جانب ذلك الحرب المستمرة في سورية".
ويلفت إلى أن تركيا تفتح صفحات جديدة مع دول الخليج، وهناك خطط لحجم تجارة يبلغ 300 مليار دولار معها، إضافة إلى الانفتاح على القارة الأفريقية. ويضيف أن "تركيا تسعى لأن تكون محطة السلام والأمن في المنطقة، وتلعب دور الوسيط الموثوق كما في الأزمة الأوكرانية، ودعم الفلسطينيين والتحوّل لطرف ضامن.
وفي المسألة السورية، تسعى لحل سياسي لسورية موحدة، كما أن هناك سياسات انفتاح تجاه أوروبا، وبالتالي، يمكن القول إن تركيا تسعى في الفترة المقبلة إلى التحول لمحطة أمان في المنطقة".
من جهته، يقول الصحافي إلياس كلج أصلان، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "تركيا دولة قومية تأسست بعد انهيار الدولة العثمانية، وشكلت صدمات الانهيار وروح العصر طابع الجمهورية الجديد باعتبارها علمانية صارمة، وقومية تركية صارمة".
أصلان: تركيا تدخل قرنها الثاني وهي أقوى بكثير، مع بنية الدولة الديمقراطية الراسخة
ويشير إلى أن عدم دخول البلاد الحرب العالمية الثانية "كان فرصة لضمان تنميتها الاقتصادية، لكنها لم تتمكن من الاستفادة منها بشكل كامل، واضطرت تركيا، التي دخلت سنوات الحرب الباردة ببنية اقتصادية وعسكرية هشة، إلى الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي تحت المظلة الأميركية في مواجهة التهديدات من جارتها الشمالية الشيوعية التوسعية".
ويضيف أن "السنوات السبعين المتبقية من القرن الأول للجمهورية استمرت على محور التحالف الرئيسي نفسه، لكن الصراعات مع الحليف الرسمي، أي الولايات المتحدة، تبدو كثيرة مقابل فرص التعاون مع العدو القديم أي روسيا".
ويعتبر أن تركيا "التي شهدت صعوداً وهبوطاً بعد عام 1950، تدخل قرنها الثاني وهي أقوى كثيراً، مع بنية الدولة الديمقراطية الراسخة، وسكانها من الشباب والمتعلمين واقتصادها بين أفضل عشرين اقتصاداً، وبنيتها التحتية تكاد تكون مكتملة".
ويرى أصلان أن "السمة الأكثر وضوحاً للجمهورية التركية في قرنها الثاني أنها أصبحت دولة متطورة ومعززة، تنظر بثقة ليس فقط إلى جغرافيتها المباشرة ولكن أيضاً إلى المنطقة الأوسع، والحكم المستمر لأردوغان في العشرين عاماً الماضية له نصيب كبير في هذا".
ويضيف: "على الرغم من أن تركيا لا تزال تعاني من نقاط ضعف اقتصادية، إلا أنها تدخل قرنها الجديد بثقة بالنفس، وهي أكثر فعالية في منطقتها المباشرة ومحيطها البعيد في البيئة الجيوسياسية الجديدة، والتي انتقلت من عالم أحادي القطب تحت الهيمنة الأميركية الغربية إلى عصر متعدد الأقطاب، وتحاول أن تكون من الدول صانعة القرار في العصر الجديد، بنهج أصبح شعاراً مثل العالم أكبر من خمسة".