شيّع جثمان وزير الدفاع الجزائري وعضو المجلس الرئاسي السابق اللواء المتقاعد خالد نزار اليوم السبت في مقبرة العالية الرسمية في العاصمة الجزائرية، بعد وفاته أمس الجمعة عن عمر ناهز 86 عاماً، حيث أقيمت له جنازة رسمية حضرها رئيس الحكومة نذير العرباوي، وقائد أركان الجيش الفريق أول السعيد شنقريحة، ووزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف، وعدد من كبار الشخصيات السياسية والعسكرية في الجزائر.
الصدفة وحدها والأقدار هي التي جعلت يوم وفاة اللواء نزار هو نفسه يوم إعلان القضاء السويسري تحديد تاريخ محاكمته عن تهم التعذيب التي تلاحقه منذ التسعينيات، ففي اليوم الذي أعلنت فيه عائلته عن وفاته، أعلنت منظمة "ترايل إنترناشيونال" الحقوقية في سويسرا (تتولى تقديم المساعدة القانونية لنشطاء إسلاميين أقاموا الدعوى ضده باتهامه بممارسة التعذيب) عن تحديد الفترة ما بين 17 يونيو و19 يوليو 2024، لمحاكمة نزار أمام محكمة في مدينة بيلينزونا السويسرية، بعدما كان مكتب المدعي العام قد أصدر بحق نزار في 28 أغسطس/ آب الفائت لائحة اتهام، لكن في النهاية، اختارت الأقدار أن يوضع نزار بين يدي عدالة السماء قبل عدالة الأرض.
مات اللواء نزار بعد معاناة مع المرض في الفترة الأخيرة من حياته، إذ لم يسمح له وضعه الصحي حتى بحضور احتفالية أقامتها قيادة الجيش في يوليو 2022، لتكريم كبار القيادات العسكرية المتقاعدة ورموز مرحلة مكافحة الإرهاب، وأعلن حينها أن الرجل مريض، لكن الجدل الملازم لشخصه واسمه ومساره، لم يمت، وفي اللحظة التي أعلن فيها عن وفاته، عاد الجدل نفسه بقوة وسجلت مواقف متناقضة بشأنه، وهي مواقف يمكن تلمسها بشكل واضح عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتعبيرات السياسية لمختلف التيارات في البلاد.
بغض النظر عن تفاصيل كثيرة ومثيرة في مسار الرجل، يمتد حتى إلى لحظة انتمائه قبل الاستقلال للجيش الفرنسي قبل انضمامه إلى ثورة التحرير، وصولاً إلى دوره في قمع وتعذيب وإطلاق الرصاص على الشباب المنتفض في مظاهرات أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1988، فإن محل الانقسام الأساسي للمواقف بشأن نزار، قبل وبعد وفاته، مرتبط بالأساس بدوره في إلغاء المسار الانتخابي في يناير/كانون الثاني 1992، والذي قاد إلى الأزمة الأمنية وحمام الدم في الجزائر منذ ذلك العام وحتى بداية الألفية، حيث خلفت تلك الفترة مقتل 250 ألف شخص وآلاف المفقودين ومليارات الدولارات من الخسائر، فضلاً عن مخلفات أخرى للأزمة على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
ينظر تيار سياسي وفكري ومجتمعي واسع، يضم النخب التقدمية والعلمانية ومن اليسار الراديكالي وجزء من التيار البربري المتحالف مع السلطة، إلى نزار باعتباره كان الرجل القوي في النظام بداية التسعينيات بعد تسلمه وزارة الدفاع، وأنه "منقذ الجمهورية" من الإسلاميين المتطرفين ومن "أفغان الجزائر"، ومخلص الجزائر من فم ما يوصف لدى التقدميين بـ "التيار الظلامي"، ويعتبرون أن خالد نزار والمجموعة التي كانت تدير البلاد في بداية التسعينيات اتخذت القرار الصحيح بوقف وقف المسار الانتخابي في 12 يناير/ كانون الثاني من عام 1992، ودفع الرئيس الشاذلي بن جديد إلى الاستقالة، وبالتالي الحيلولة دون إجراء الدور الثاني للانتخابات النيابية التي كانت الجبهة الإسلامية للإنقاذ قد حصدت أغلب مقاعدها في الدور الأول الذي كان قد جرى قبل ذلك بشهر.
بعد وفاة نزار، بادرت غالبية الفعاليات والشخصيات المحسوبة على هذا التيار الديمقراطي إلى تأبينه، فهو بالنسبة لهم في مقام الرمز للنظام الجمهوري، على الرغم من أنه قام - بحسب خصومه - بوأد تجربة ديمقراطية وتعطيل مسار الاختيارات الشعبية، ويستند تبرير الديمقراطيين لموقفهم السياسي المؤيد والممتن لنزار، بأن الإسلاميين بقيادة "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" (محظورة عن النشاط منذ مارس 1992) التي كانت تسيطر بداية التسعينيات على الشارع والمساجد والبلديات (كانت قد فازت بالانتخابات المحلية في سبتمبر/ أيلول 1990)، كانوا سيقودون البلاد إلى حكم متطرف وحرب طاحنة بسبب خطابهم المتطرف، وانتهاج التكفير والشحن ضد المكونات السياسية الأخرى، فيما لو تم استكمال المسار الانتخابي، وتمكنوا من التحكم في مفاصل الدولة، فضلاً عن إعلان قيادتهم أن "الديمقراطية كفر"، والتهديد باستخدام السلاح والعنف ضد الدولة وخصومهم السياسيين.
في المقابل، يبزر موقف بالغ الحدية لدى تيار ثانٍ بشأن خالد نزار، يضم الإسلاميين خاصة من كل الفصائل والمرجعيات والتيار الوطني، والنخب القومية واليسار الاشتراكي، حيث يعتبر هذا التيار أن نزار يحمل المسؤولية الكاملة والمباشرة عن الأزمة الأمنية التي دخلت فيها البلاد في التسعينيات ومخلفاتها الدامية والعصيبة، والأبعاد التي تضمنتها من اقتتال داخلي واعتقال ونقل الآلاف من الإسلاميين إلى محتشدات الصحراء، فضلاً عن المفقودين (ضحايا الاختفاءات القسرية)، وفصل الآلاف من مناصب عملهم بسبب انتمائهم السياسي، هذا الموقف بالنسبة لهذه الكتلة التي كانت نظمت في منتصف التسعينيات ما يعرف بـ "عقد روما" للمطالبة بإقامة حوار وطني لحل الأزمة السياسية في البلاد حينها، لا يتأسس فقط على دور خالد نزار ومسؤوليته السياسية في وقف المسار الانتخابي عام 1992 والأزمة الأمنية، ولكن أيضاً لاعتبارات سياسية ومرجعية، حيث يصنف هؤلاء نزار ضمن "جنرالات وحزب فرنسا"، الذي ينسب له في الغالب تنفيذ خيارات سياسية وثقافية موالية لفرنسا.
كان لافتاً أنه بخلاف أحزاب وقوى تقدمية، لم تبادر أي أحزاب إسلامية ووطنية إلى اصدار بيانات نعي في وفاة نزار، وبرغم مرور أكثر من ثلاثة عقود على الأزمة الجزائرية، وهي فترة وإن كانت سمحت للبعض بإجراء مراجعات في تقدير وفهم الموقف السياسي في حينه والظروف التي شجعت نزار ومجموعته العسكرية إلى اتخاذ قرار وقف المسار الانتخابي، إلا أن جزءاً من الإسلاميين، وخاصة فصيل الجبهة الإسلامية للإنقاذ (المحظورة)، لا يتوانى في وصف نزار قبل وبعد وفاته حتى، بـ "جزار الأزمة الجزائرية"، واعتباره المؤسس وصانع الخيار الاستئصالي الحاد، بدلاً من ترك فرصة لحلول سياسية وحوارية أخرى كان يمكن أن تجنب البلاد تلك الفتنة.
قبل وفاته بسنوات، أخذ خالد نزار وقته الكافي للدفاع عن نفسه عبر كتب وحوارات صحافية كثيرة حول تلك الحقبة، برر فيها ظروف وملابسات مرحلة ما زالت الكثير من جوانبها وتفاصيلها مخفية وبحاجة إلى قراءة ومعالجة هادئة.