في فبراير/ شباط 2021 اتفقت الأحزاب السياسية الإيطالية على منح أصواتها لاختيار التكنوقراطي ماريو دراغي رئيساً لحكومة بلدها، بعد فترة طويلة من غياب الاستقرار السياسي وانعدام كفاءة الشعبويين واليمين المتطرف.
جاء الرجل من خلفية أوروبية، بعلاقات متشعبة واحترام فرضه طيلة سنوات ترؤسه البنك المركزي الأوروبي، ليجمع معسكرات السياسة، من اليمين إلى اليسار، بحسب ما أطلق عليه "حكومة الوحدة الوطنية". وبرغم أن الصحف الأوروبية أطلقت عليه تسمية "الرجل الأوروبي القوي"، بعد انتخابه قبل عام ونصف العام، فلا يبدو أن روما كانت بذات قدر مرونة وهدوء دراغي (75 عاماً)، رغم كل ما قام به منذ اندلاع جائحة كورونا في بلده ربيع 2021.
للمرة السابعة إذاً، خلال عقد واحد فقط، تصبح البلاد أمام واقع قديم للبحث عن طريقة أخرى للحكم، والأسهل هو الهروب إلى انتخابات برلمانية. فقد اضطر دراغي إلى ترك الجمل بما حمل أمس الخميس على حلبة الصراع السياسي بين مكونات الطبقة السياسية، لتعود إيطاليا إلى مربعها المعتاد "اللا استقرار"، الذي صبغ سيرة حكمها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.
وعلى ما يبدو فإن إنجازات حكومته، في بلد ضربته أزمة اقتصادية وجائحة كورونا بقوة، وخصوصاً على مستوى إصلاحات كان يصعب على الحكومات السابقة تطبيقها، سعياً للخروج من ركود اقتصادي في البلد العضو في نادي السبع الكبار، والثالث أوروبياً على مستوى الدول الصناعية، وسعيه لصرف مفيد وموثوق لمخصصات الاتحاد الأوروبي ضمن حزمة التعافي، والتي بلغت لروما نحو 180 مليار يورو، لم يسعفه في تجنب "ألاعيب" الأحزاب. وكان لافتاً تصويت حزب "الخمس نجوم" الشعبوي، بزعامة رئيس الحكومة السابق جوزيبي كونتي، في البرلمان ضد موازنة حكومية من 30 مليار يورو، رغم أنه جزء من الحكومة، وتجاهل تهديد دراغي بالاستقالة إن صوّت ضده في البرلمان. ولعل ذلك ما سعى إليه الثعلب السياسي كونتي.
صعود اليمين المتطرف
أراد ماريو دراغي الحفاظ على الائتلاف الحاكم حتى الانتخابات المقبلة الاعتيادية في بداية العام المقبل 2023، لكن يبدو أن حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة هو بالضبط ما كانت تسعى إليه أجنحة السياسة، وخصوصاً في اليمين المتشدد، الذي يقرأ الاستطلاعات على وقع الأزمات في مصلحته.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب "إخوة إيطاليا" سيحصل على حوالي إلى 24 في المائة من الأصوات، وهو تحسن كبير عن نتيجة 4.8 في المائة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2018، وحزب "ليغا" متوقع له نسبة 15 في المائة، بينما "فورزا إيطاليا" بنسبة 8 في المائة.
إذا، وحتى 25 سبتمبر/ أيلول المقبل، موعد الانتخابات المبكرة، سيكون النظام السياسي الإيطالي المضطرب أمام استحقاق انتخابي، بعد أن فرض رئيس البلاد سرجيو متاريلا حل البرلمان، وهو رئيس خبر بنفسه ذلك الاضطراب الذي منع انتخاب بديل عنه، فجدد له في منصبه.
في الواقع تعبر مجريات تصويت البرلمان على اقتراع الثقة على دراغي عن غياب الثقة فعلياً بهذا النظام. فرغم أنه نجا من إسقاطه بتصويت 95 صوتاً معه و38 ضده، إلا أن المشكلة التي واجهها وجعلته يعتزل المنصب هي امتناع ثلاثة من الأحزاب المشكلة معه الائتلاف الحاكم عن التصويت، وبالتالي وكأنها إشارة إلى استحالة العمل معها، وقرر تنفيذ تهديده بالخروج وفض الاشتباك غير المؤدي إلى نتائج.
في كل الأحوال، كان بإمكان "الخبير" دراغي تشكيل حكومة أخرى انتقالية حتى موعد انتخابات العام المقبل، لكن تسمم الأجواء على مستوى المؤسسة التشريعية لم يكن ليجدي لتخطي إيطاليا أزماتها كما تأمل ببعض الخبرات والكفاءات التي كانت تنجز تقدماً. وبالطبع سيبقى الرجل في منصبه حتى إجراء الانتخابات المبكرة، لكنه بعد 17 شهراً يدرك أنه من الصعب اتخاذ قرارات حاسمة في ظل حكومة تصريف الأعمال، وخصوصاً أن حبكات اليمين المتطرف نجحت في مراكمة شعبية تضع بالفعل إيطاليا أمام مأزق أن تصبح الحركة الفاشية في مقدمة الاستطلاعات فيها.
"إخوة إيطاليا".. الفاشية في المقدمة
الواقع المستجد، والذي وصفته صحيفة "لا ستامبا" بلغة ساخطة على أنه "مخزٍ"، واعتبرته "لا ريبوبليكا" بمثابة "إيطاليا تتعرض لخيانة"، يشير بوضوح إلى طموح معسكر الشعبويين الذين جرّبهم الإيطاليون إلى استعادة زمام الحكم مرة أخرى. ولعل ما يقلق في مسار الأزمات مراهنة الحركة الفاشية "إخوة إيطاليا" بزعامة جيورجيا ميلوني على التحول إلى أكبر الأحزاب البرلمانية، من خلال الاستطلاعات التي تمنحها ربع أصوات الناخبين.
سيكون من غير المهم ما ستحصل عليه باقي الأحزاب الشعبوية والمتشددة، مثل "ليغا" بزعامة وزير الداخلية السابق ماتيو سالفيني، أو "النجوم الخمس" من خلال رئيس الوزراء السابق جوزيبي كونتي، بعد أن استقال منه وزير الخارجية الحالي لويجي دي مايو.
الصداع الذي يخلقه تصدر ميلوني للاستطلاعات لا يحرج روما فحسب، والغضب الذي تعبر عنه الصحافة فيه اختزال للمخاوف المستقبلية، من أن البلد سيكون في قبضة ميلوني و"إخوة إيطاليا"، التي لم تنفي مسعاها لترؤس الحكومة المقبلة. أوروبا بنفسها ستجد نفسها أيضاً في ورطة مع هذه الميول الفاشية للحركة وزعيمتها ميلوني، وبما يشكل محركاً ودافعاً قوياً لبقية أقطابها في أوروبا.
وبذلك فإن الاستقرار السياسي الإيطالي الذي راهن الأوروبيون وقسم كبير من الإيطاليين على تحقيقه في مرحلة ماريو دراغي لن يهبط فجأة في اليوم التالي للانتخابات المقبلة، بل سيستمر الخلاف على اختيار الحكومة المقبلة، ربما لأسابيع ليست في مصلحة الوضع المأزوم في البلد.
إدارة الظهر من سالفيني وكونتي ورئيس الحكومة الأسبق العجوز، سلفيو برلسكوني، لدراغي أمر مقلق أيضاً لكل أوروبا لناحية سياساتها التي تحاول لجم نفوذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ساحاتها الحزبية والسياسية، وبالأخص مع تململ في سياق العقوبات على موسكو وتوريد الطاقة وتراجع الرغبة في التأييد العسكري لأوكرانيا.
لعبة اليمين المتطرف
لعبتْ زعيمة "إخوة إيطاليا"، ذات الجدور الفاشية، ميلوني، لعبتها المفضلة طيلة عام ونصف العام من حكم دراغي، بالبقاء خارج حكومة الوحدة الوطنية، وجعل أحزاب اليمين المتشدد تبدو أكثر ليونة، بينما عزفها المتشدد وانتقاداتها الحادة في الشارع أدى في بعض الأشهر إلى صعود نجمها في الاستطلاعات إلى نحو 30 في المائة.
ودخلت ميلوني (45 عاماً) حلبة السياسة منذ أن كانت في سن الخامسة عشر في "المنظمة الشبابية للحركة الاجتماعية الإيطالية" التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية من قبل حلفاء الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني والمتعاونين مع النازية. وجرى لاحقا تحويل الحركة إلى حزب "التحالف الوطني" الذي دخل في أواخر التسعينيات في تحالف مع برلسكوني، وجرى تعيينها كأصغر وزيرة في تاريخ البلد.
ولم تكتف ميلوني بتحقيق طموحاتها الفاشية على الساحة بمنصب وزاري أو الانضواء في حزب تقليدي، فأسست في 2012 "إخوة إيطاليا"، كنواة من هؤلاء الذين يعيشون حالة حنين إلى الفاشية، وتؤكد كما بقية اليمين المتطرف في أوروبا، أن حزبها يعمل على أساس التمسك بالقيم العائلية الكاثوليكية، دون إغفال وصلات الكراهية للمهاجرين وجعلهم كبش فداء لكل أزمات روما، وتعارض الإجهاض وتقف بعناد ضد منح المثليين أية حقوق.
في نهاية المطاف، الصورة التي كانت ترسم بعد تولي دراغي بأشهر لحكومة روما، باعتبارها أصبحت أكثر ثقة بنفسها وبأنها باتت جديرة بالثقة والاحترام في أوروبا وفي حلف شمال الأطلسي، بعد مرض وغياب استقرار، تنهار باستقالة رئيس الوزراء وتذكر القارة الأوروبية مجدداً بأن زوايا كثيرة فيها غير محصنة.