لدى فرنسا أزمة كبيرة مع التاريخ، ومثلما لم يتخلص الجزائريون -ولا يمكنهم ذلك- من الألم والعذابات المستمرة فعلياً التي سببها الاستعمار الفرنسي، والتي تتجدد عند كل نصب تذكاري أو مقبرة للشهداء، وفي ذكرى أي حدث ثوري، لم تتخلص فرنسا على مستوى الدولة والنخب السياسية من عقدة التاريخ في علاقاتها مع الجزائر، ليس لرغبة، بل لأن لذلك كلفة كبيرة ترفض فرنسا دفعها.
تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الأربعاء الماضي، بأن "باريس لن تتوجه لطلب الصفح من الجزائريين"، بشأن جرائم الاستعمار، محاولة استباقية لوضع إطار جديد -من منظور فرنسي صرف- للعلاقات بين البلدين خارج السجن التاريخي الذي وجدت فيه هذه العلاقات.
في الواقع، يمثل هذا التصرف السياسي إنكاراً لمسار طبيعي من العلاقات التي ولدت بالأساس داخل أسوار من التاريخ الدامي والعنيف والقاسي، بحيث لا يمكن الانتقال إلى وضع من العلاقات الطبيعية دون إعمال المفاتيح التي تتيح الخروج من هذا السجن.
وهذه المفاتيح هي ثلاثة لا ينقص منها واحد، الاعتراف بالظلم الاستعماري الذي تسلط على الجزائريين، والاعتذار عن التدمير والاستغلال القهري، والتعويض المادي الذي لا مناص منه. ويؤمن الفرنسيون باستمرارية الدولة، إلا في ما يتعلق بالعلاقات مع الجزائر، دائماً ما كانت المؤسسة الرسمية في باريس، تحاول رمي ملف التاريخ الحارق من بين يديها، ووضعه بين يدي المؤرخين (وهي تجربة أظهرت فشلها).
هذا الهروب ضمن لعبة فرنسية بالغة التكتيك، تجعل من التاريخ مجرد وقائع حدثت في ظرفية معينة وضمن سياقات محددة، من دون النظر إلى مخلفاتها القاسية والمستمرة حتى الآن، ليس أقلها التفجيرات النووية وحقوق الألغام التي لا تزال تقتل الجزائريين. ثمة محاولة فرنسية للفصل بين المسارين السياسي والتاريخي، بينما هي مسارات لا تفصل عن ذات ولا تنفصل لذاتها.
لا تستطيع أي سلطة سياسية في الجزائر، مهما كان امتدادها الشرعي ومستندها في الحكم، القبول بهذا الفصل الذي يحاول أن يجعل من الماضي الأليم مجرد أحداث ووقائع، كما لو أنها هوشة في حيّ، لأنه بخلاف ما كان مأمولاً ويعتقد، تتزايد الملفات التاريخية العالقة ولا تنقص.
وبخلاف ما كان متوقعاً من أن الجيل الجديد أقلّ اهتماماً بالتاريخ، يزيد تمسك الأجيال الجديدة من الشباب الجزائري بالحقوق التاريخية، وهي أكثر وعياً بذلك، وهذا الأمر لن يسهل مناقشة الحقوق التاريخية للجزائر.
دائماً كان المسار المتعرج للعلاقات بين الجزائر وفرنسا، يثبت أن التاريخ يسكن في كل نطاق ويتمركز في قلب كل بعد من الأبعاد التي تتوجه إليها العلاقات بين البلدين، سواء كان البعد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي والثقافي.
جميع هذه الأبعاد تتأثر بالمعضلة التاريخية وتحتكم إليها، إذ كان واضحاً كيف أحدث تصريح سابق لماكرون حول التاريخ الجزائري بقوله إن "الجزائر لم تكن أمة قبل الاستعمار"، انقباضاً شديداً وأزمة غير مسبوقة في العلاقة بين الجزائر وباريس.
وإذا أضيف إلى ذلك متغير جديد وحيوي، يخص وجود توجه رسمي جدي وجاد في الجزائر، لاستبعاد هيمنة اللغة الفرنسية على الإدارة والوثائق ونظم التعليم، والخروج مما وصفه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي بـ"الكومنولث اللغوي"، فإن المسافة بين الجزائر وباريس تتحرك باتجاه خيار ثوري وسليم... وحتى الزيارات الرئاسية بين البلدين، سواء التي تمت أو التي ستتم، ليست سوى علاقات عامة لن تغير من جوهر العقدة والحل.