عاد المسلّحون المتطرفون، منذ أيام عدة، إلى فرض حصار على مدينة تمبكتو في شمال مالي، بعد أكثر من 10 سنوات من دخول القوات الفرنسية إلى هذه المدينة الأثرية لطرد المتطرفين منها، في إشارة جديدة إلى حجم التراجع الأمني في هذه المنطقة منذ سيطرة العسكريين في انقلابين على الحكم بعد إطاحة الرئيس (الراحل) إبراهيم أبوبكر كيتا، قبل ثلاث سنوات، في أغسطس/ آب عام 2020، وعدم قدرتهم مع قوات مرتزقة "فاغنر" الروسية المتعاونة معهم، والموجودة في تمبكتو، على منع التمدد "الجهادي".
ومع إتمام الانقلاب العسكري في مالي عامه الثالث، وما تخلّله من انقلاب عسكري آخر في بوركينا فاسو المجاورة في منطقة الساحل، ثم انقلاب النيجر أخيراً الذي أطاح حكم الرئيس المنتخب محمد بازوم، تعلو الأصوات المحذرة من تمدد "الجهاديين" الناشطين في المنطقة، وعلى رأسهم تنظيم "القاعدة" وأفرعه في منطقة الساحل، وتنظيم "داعش"، دون قدرة أنظمة الحكم العسكرية على لجم ذلك، لا سيما وسط تراجع الدعم الاستخباري والعسكري الغربي لها.
يتزامن حصار تمبكتو من قبل أحد أفرع تنظيم "القاعدة"، مع مواصلة القوات الأممية إخلاء قواعدها في المنطقة
ووسط ذلك تبدو تمبكتو الأثرية بريد رسائل، ومعها تبدو شمال مالي أرضاً خصبة لإثبات الجماعات المتطرفة وجودها، ومنها تمبكتو وما تحمله من رمزية، على اعتبار أن السيطرة عليها من قبل المتمردين الطوارق ثم المتطرفين في عام 2012، استدعى تدخلاً فرنسياً عسكرياً في عام 2013، انتهى دراماتيكياً بمغادرة القوات الفرنسية مالي بطلب من الحكم العسكري الانقلابي، من دون أن تكون قد حقّقت إنجازاً بالقضاء نهائياً على الجماعات "الجهادية" الناشطة في شمال مالي.
تمبكتو لإثبات "القاعدة" وجودها
ويتصادف حصار تمبكتو الجديد من قبل أحد أفرع تنظيم "القاعدة"، وهي "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، منذ أيام، مع مواصلة القوات الأممية العاملة في شمال مالي (بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي - مينوسما)، إخلاء قواعدها في المنطقة، على أن يغادر آخر جنودها مالي في 31 ديسمبر/ كانون الأول المقبل.
وبالفعل، فقد أعلنت "مينوسما" في 17 أغسطس الحالي، على موقعها الإلكتروني، أن "انسحاب قواتها، الذي يحصل بطلب من السلطات الانتقالية العسكرية في مالي، والذي تمّت الموافقة عليه من مجلس الأمن الدولي وفق القرار 2690، يتواصل".
وبناء على ذلك، فقد أخلت هذه القوات "معسكراتها في منطقتي بير وغوندام في منطقة تمبكتو، وتمّ تسليمهما رسمياً إلى السلطات المالية، وذلك إثر إغلاق قاعدة ثالثة في مدينة أوغاساغو، في منطقة باندياغارا". وأوضحت القوات الأممية في مالي أن قاعدتها المقبلة التي ستغلقها ستكون في ميناكا، في شمال شرقي مالي، وذلك مع حلول نهاية الشهر الحالي، علماً أن آخر الجنود الأمميين يفترض أن يغادروا مالي بحلول نهاية العام، بحسب طلب السلطات العسكرية.
وكانت القوات الفرنسية التي غادرت مالي بطلب من السلطات الانقلابية أيضاً، قد أخلت قاعدتها في تمبكتو في ديسمبر 2021، بعد وقت قصير من إخلاء قاعدتيها الكبيرتين في شمال مالي، في كيدال وتيسال. واعتبر مراقبون أن مغادرة القوات الفرنسية مالي، من شأنه أن يقلّل هجمات المتطرفين، علماً أن التململ الشعبي تجاه الوجودين الفرنسي والأممي في البلاد يعود خصوصاً لعدم قدرة قوات الطرفين على حسم المعركة ضد "الجهاديين" طوال سنوات.
جنود "فاغنر" بدل القوات الفرنسية
وإذ يؤخذ على القوات الفرنسية تحديداً من قبل الرافضين لوجودها أنها قوة "استعمار"، إلا أن القوات الأممية التي ساهمت في إعادة بناء ما دمّره المتطرفون في عامي 2012 و2013 في تمبكتو، لا سيما الأضرحة الأثرية والمساجد، يؤخذ عليها من جهتها أنها لم تكن قوة تدخل بقدر ما كانت قوة "حماية"، حيث كان وجودها في تمبكتو حامياً لمسافات صغيرة في محيط المنطقة، التي بقي فيها الوجود "الجهادي" واضحاً ويزداد خلال السنوات الماضية.
يؤخذ على القوات الأممية أنها لم تكن قوة تدخل بل قوة حماية
يذكر أنه وبعد الانسحاب الفرنسي من تمبكتو انتشر جنود روس في قاعدة تمبكتو العسكرية لتدريب الجنود الماليين، وهو ما أكده الجيش المالي، في يناير/ كانون الثاني 2022، متحدثاً عن "مدربين روس"، من دون ذكر عددهم أو طبيعة مهمتهم المحدّدة. وأكد الجيش المالي، حينها، أن القوات الروسية في البلاد جاءت وفق اتفاقات ثنائية، علماً أن ذلك لاقى امتعاضاً غربياً واسعاً، خصوصاً من القوة الاستعمارية السابقة، فرنسا، التي تتهم موسكو بمحاولة التمدد أفريقياً بواسطة شركة "فاغنر" للمرتزقة.
وبحسب أرقام أممية غير رسمية، فإن لروسيا حوالي ألف عسكري و"متقاعد" عسكري في مالي، ومنهم العشرات في تمبكتو. وتحدثت تقارير إعلامية غربية عدة عن انتهاكات جسيمة ارتكبتها قوات "فاغنر" في مالي، ومنها في تمبكتو، حيث تجري عمليات "ترويع" للأهالي، بالتزامن مع تسارع وتيرة الهجمات "الجهادية".
وأكد مسؤول محلي في تمبكتو لوكالة "فرانس، أمس، أن المسلحين المتطرفين "أغلقوا كل طرق" الدخول إلى المدينة الواقعة على أطراف الصحراء والخروج منها. وأوضح أن "لا شيء يعبر بين تمبكتو والجنوب"، مشيراً إلى أن المواصلات على طول نهر النيجر مقطوعة. وقال مسؤول في بلدية المدينة أيضاً، للوكالة، طالباً هو الآخر عدم الكشف عن هويته، إن "كل شيء مكلف في تمبكتو لأن المنتجات لم تعد تدخل المدينة، لقد أغلق الجهاديون الطرق، والأمر صعب حقاً".
تمركز جنود ومتقاعدون روس في القواعد الفرنسية التي أخليت في تمبكتو
وكانت رسائل على وسائل التواصل الاجتماعي تمّ تداولها في وقت سابق من الشهر الحالي، ومنسوبة إلى قائد في "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين"، قد أفادت بأن الجماعة "أعلنت الحرب" على منطقة تمبكتو. وحذرت الرسائل الشاحنات القادمة من الجزائر وموريتانيا وأماكن أخرى في المنطقة من دخول المدينة. وأوضحت الجماعة المتطرفة أن الشاحنات التي لا تستجيب للتحذير سيتم استهدافها.
ويحذر خبراء أمنيون من أنه من دون القواعد الفرنسية والأممية في شمال مالي، فإن القوات المالية غير قادرة على التحرك سريعاً أو التحكم جوياً لمواجهة هجمات المتطرفين، وذلك على الرغم من الدعم الروسي، ومن "فاغنر"، التي توجد في مالي وبلدان أفريقية أخرى من أجل تعزيز النفوذ الروسي ولـ"جعل روسيا أعظم" بحسب اعتراف زعيم المرتزقة يفغيني بريغوجين، وليس لمحاربة الإرهاب.
يذكر أن تقريراً لموقع "وور أون ذي روكس"، نشر في العام 2019، كان قد اعتبر أن تنظيم "القاعدة" يبقى أساسياً في الصراع في شمال مالي، ومرتبطاً إلى حد بعيد بالعنف الدائر وسط البلاد. وفي شمال مالي، رأى الموقع أن منطقة تمبكتو تحولت إلى مختبر للحركات "الجهادية" التي تبني نوعاً من "سياسة الظل"، مضيفاً أن "تمبكتو ليست بالضرورة أهم من المدن الأخرى، لكنها الموقع الذي غالباً ما تظهر فيه "القاعدة وجهها، وخلال العملية، تختبر بعض نقاط قوتها أو ضعفها".
(العربي الجديد)