مع تزايد الخلافات بين تركيا وروسيا حول سورية، وهو ما قد يفسره التصعيد الأخير في شمال غرب البلاد من جانب روسيا والنظام السوري، يثار الحديث مجدداً عن إقامة "منطقة آمنة" في الشمال بناء على تفاهمات تركية ــ أميركية.
وعلى الرغم من أن مصادر تركية سياسية وعسكرية رفيعة نفت لـ"العربي الجديد" حصول أية مباحثات أو اتصالات تركية أميركية في الوقت الحالي تتعلق بتوسيع المنطقة الآمنة على الحدود التركية السورية، إلا أن بعض الوقائع والمعطيات الميدانية والسياسية على الأرض تطرح تساؤلات حول ما يجري، من دون استبعاد أن تكون إثارة هذه المسألة تأتي فقط في إطار الضغوط المتبادلة بين الأطراف المعنية المتنافسة في الشأن السوري.
ووفق مصادر محلية تحدثت لـ"العربي الجديد" من شمال شرقي سورية، فإن "الإدارة الذاتية" الكردية بدأت، أخيراً، بنقل بعض مؤسساتها من المناطق الشمالية، القريبة من الحدود مع تركيا، إلى مناطق أبعد في العمق السوري، لتكون خارج المنطقة الآمنة المفترضة التي ستضم مناطق تقع حالياً تحت سيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، مثل المالكية ومنبج والدرباسية وعامودا وربما القامشلي.
وأكدت المصادر إياها أنه جرى بالفعل نقل موقع تلفزيون "روناهي" من عامودا إلى الحسكة، إضافة إلى نقل بعض الإدارات العسكرية، مبينة أن ذلك يأتي في إطار خطوات لفك الارتباط بين حزب "العمال الكردستاني" والإدارة الذاتية بناء على ضغوط أميركية.
وبحسب ما كانت تركيا قد تحدثت عنه مراراً، فإن المنطقة الآمنة التي تريد أنقرة إقامتها على طول الحدود مع سورية بعمق 32 كيلومتراً، ستضم مدناً وبلدات من 3 محافظات سورية، هي حلب والرقة والحسكة، على أن تمتد المنطقة على طول 460 كيلومترا، على طول الحدود التركية السورية.
ووفقاً لهذه الرؤية، فإن أبرز المناطق المشمولة في المنطقة الآمنة هي المناطق الواقعة شمالي الخط الواصل بين بلدتي صرّين في محافظة حلب وعين عيسى في محافظة الرقة، وكلاهما تقعان اليوم تحت سيطرة قوات "قسد".
كما تضم المنطقة الآمنة، بحسب التصور التركي، مدينة القامشلي وبلدات تل تمر، والدرباسية، وعامودا، وتل حميس، والقحطانية، واليعربية، والمالكية، ورأس العين في محافظة الحسكة، وكلها أيضاً تقع تحت سيطرة "قسد" باستثناء رأس العين التي سيطرت عليها القوات التركية وفصائل "الجيش الوطني السوري في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
وكذلك ستضم المنطقة كلاً من عين العرب (كوباني) في ريف حلب التي ما زالت تحت سيطرة "قسد"، وتل أبيض بريف محافظة الرقة والتي سيطرت عليها تركيا والجيش الوطني في عملية "نبع السلام".
وسعت تركيا خلال السنوات الماضية لإنشاء المنطقة الآمنة في مناطق الشمال السوري عبر قرار دولي، إلا أن الأطراف الفاعلة بالشأن السوري لم تدعم هذا التحرك.
وكان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار صرح يوم الجمعة الماضي، خلال افتتاحه مقر قيادة التميز المركزية للأمن البحري التابع لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، بأن الحلف لم يلتزم بمتطلبات إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، على الرغم من وضع بعض الخطط لإقامتها، على حد تعبيره.
ولفت آكار، بحسب ما أوردته وكالة "الأناضول"، إلى أن بلاده اقترحت مراراً على حلفائها في الناتو إقامة منطقة آمنة شمالي سورية، وأنها وضعت مع دول حلف شمال الأطلسي الخطط اللازمة لذلك، لكن "لم يتم الوفاء بمتطلبات هذه الاتفاقيات، وتُركت تركيا وحدها في مكافحة الإرهاب".
ورأى المسؤول التركي أن بلاده تحملت العبء الأكبر لتخفيف معاناة الشعب السوري، معتبراً أن القوات المسلحة التركية هي جيش الحلف الوحيد الذي قاتل ضد "داعش" وجها لوجه.
كما أكد أن بلاده تحترم حدود "دول الجوار وسلامتها الإقليمية وسيادتها، ولا يوجد لديها أي مطامع في أراضي أحد".
وجاء حديث وزير الدفاع التركي بعد ساعات قليلة من تصريحات أدلى بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكد فيها أن تركيا ستواصل بذل جهدها من أجل ضمان مستقبل مشرق لسورية، مشيراً إلى أن أنقرة "ستبذل جهوداً إضافية لضمان مستقبل مشرق لسورية على قاعدة وحدة أراضيها ووحدتها السياسية".
كما لفت إلى أن أجزاء كبيرة من المناطق السورية القريبة من الحدود مع تركيا قد أصبحت آمنة بفضل ما فعلته بلاده هناك.
غير أن مصادر تركية سياسية وعسكرية رفيعة تحدثت، لـ"العربي الجديد"، حول موضوع المنطقة الآمنة، نافية حصول أية مباحثات أو اتصالات تركية أميركية في الوقت الحالي تتعلق بالأمر.
ولفتت إلى أن "أي تطور من هذا القبيل يرتبط بنتائج القمم الدولية المنتظر إجراؤها في الفترة المقبلة، وخاصة القمتين الأميركية الروسية، والتركية الأميركية، ولاحقاً ربما المباحثات التركية الروسية".
واعتبرت المصادر أن "المنطقة الحدودية المحاذية لمنطقة نبع السلام، سواء من ناحية الحسكة أم عين العرب (كوباني)، خرجت من السيطرة الأميركية الكاملة، وبات العامل الروسي مهما فيها، وبالتالي فإن أي حديث عن توسيع المنطقة الآمنة في هذه المنطقة يرتبط بشكل مؤكد مع الموقف الروسي.
وأكدت أنه "حالياً لا توجد أي حوارات في هذا الإطار، ولا يعرف حتى الآن ما هي مخرجات القمة الأميركية الروسية المتعلقة بسورية، والترتيبات التي قد تشمل منطقتي إدلب وشرق الفرات".
وشددت المصادر على أن "هامش المناورة التركية في المنطقة مرتبط بالتفاهمات الأميركية الروسية، كما أن الحديث عن تشكيل المنطقة الآمنة بشكل موسع على الشكل الذي كانت تطرحه تركيا في السابق قبل سنوات، قبيل أن يحدث واقع جديد على الأرض، مرتبط أيضاً بالحوار الذي تسعى واشنطن إلى فتحه بين مجلس سورية الديمقراطية، الجناح السياسي لـ"قوات سورية الديمقراطية" (قسد)، وبين تركيا".
ولفتت إلى أن "تركيا تشترط، وقبل كل شيء، أن تفك تلك القوات الكردية ارتباطها مع حزب العمال الكردستاني، وإخراج جميع عناصرها من المنطقة، قبل البدء بأي حوار".
وأضافت أن تركيا تراقب أيضاً نتائج الحوار بين المجلس الوطني الكردي و"قسد"، حيث إن مطالب المجلس الوطني الكردي تنسجم مع المطالب التركية من ناحية فك الارتباط مع الكردستاني ونشر قوات البشمركة السورية في المنطقة.
وخلصت المصادر إلى أن "تفاهمات شرق الفرات باتت مرتبطة بالتفاهمات المماثلة في إدلب، حيث إن هناك ضغطاً روسياً باتجاه إدلب من أجل تحقيق مكاسب للنظام في شرق الفرات"، كاشفة أن التوافق التركي الأميركي في منطقة إدلب يرافقه خلاف كبير شرق الفرات، وهو ما يشير إلى عدم إمكانية توسيع المنطقة الآمنة في الوقت الحالي، بانتظار حصول تطورات في التفاهمات الدولية خلال الاجتماعات التي ينتظر عقدها الشهر الحالي.
ويرى مراقبون أن إعادة طرح قضية المنطقة الآمنة قد تكون محاولة من الجانب التركي للحصول على دعم أميركي في مواجهة الضغوط والتهديدات التي تتعرض لها، خاصة من جانب روسيا، إضافة إلى توجيه رسائل للجانب الروسي بأن لدى تركيا خيارات أخرى في حال مواصلة الضغط الميداني والسياسي عليها، فضلاً عن تخفيف ضغط اللاجئين السوريين نحو أراضيها عبر نقل جزء منهم إلى هذه المنطقة، وبالتالي نزع إحدى ذرائع المعارضة التركية التي تحاول، بين الفينة والأخرى، الضغط على حكومة أردوغان في هذا الملف.