بررت الدول الأوروبية التسع التي قررت يوم الاثنين الماضي تشكيل قوة عسكرية مشتركة للتدخل السريع، من خارج إطار الاتحاد الأوروبي وحلف شمالي الأطلسي، مشروعها بضرورة التنسيق من أجل التحرك العسكري السريع من جانب القوات العسكرية الوطنية الأوروبية. والدول التسع الموقعة هي كل من فرنسا وألمانيا وبلجيكا وبريطانيا والدنمارك وهولندا وإستونيا وإسبانيا والبرتغال، بينما تراجعت إيطاليا عن دعمها الأولي، رغم عدم نفيها استعدادها للمشاركة المستقبلية.
إلا أن قوة "مبادرة التدخل الأوروبي" التي تم التوافق عليها في لوكسمبورغ، والتي كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد طرحها للنقاش في سبتمبر/أيلول الماضي، تضاربت مع مبادرة "التنسيق المؤسساتي الدائم"، والمعروفة باسم "بيسكو" اختصاراً. وهي مبادرة دفاعية مؤلفة من 23 دولة من أصل 27 عضواً في الاتحاد الأوروبي تم إطلاقها في ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وتنبثق بيسكو من معاهدة لشبونة، والتي تعد عملياً دستور الاتحاد الأوروبي، وتهدف إلى تكامل القدرات الدفاعية للدول الأعضاء بعد بريكست، وهو ما يستثني بريطانيا عملياً.
وتعد مبادرة التدخل الأوروبي نتيجة جهد ألماني ـ فرنسي مشترك على مدى الأشهر الماضية لبناء قوة تدخل عسكري أوروبية ما وراء حدودها، من دون اللجوء إلى دعم حلف شمالي الأطلسي أو الولايات المتحدة. كما تسمح القوة لدول من خارج الاتحاد الأوروبي، وهي بريطانيا حتى الآن، بأن تكون جزءاً منها شرط أن تساهم في ميزانيتها.
ويأتي هذا الإعلان الأوروبي نتيجة لمخاوف عدد من الدول الأوروبية، وعلى رأسها فرنسا وإسبانيا، من بطء عملية اتخاذ القرار السياسي في مؤسسات الاتحاد الأوروبي، نتيجة لاختلاف الاستراتيجيات الدفاعية والسياسة لدوله. وهو ما يؤدي غالباً إلى عدم قدرة الاتحاد على صنع سياسات أوروبية خارجية مشتركة عدا عن التدخل العسكري. وعبّرت وزيرة الدفاع الفرنسي فلورنس بارلي عن ذلك يوم الأحد الماضي، في حديثٍ لصحيفة "لو فيغارو" الفرنسية قائلةً "يتطلب الدفاع الأوروبي ثقافة استراتيجية مشتركة. تأخذ عملية صنع القرارات في الاتحاد الأوروبي الكثير من الوقت مقارنة بمدى السرعة التي يجب اتخاذ القرار فيها للتدخل في مناطق يرى الأوروبيون أنها ضرورية لأمنهم".
وأضافت أن "كلاً من فرنسا وبريطانيا كانتا قد أعربتا عن قلقهما من تباعد المصالح الجيوسياسية لدول الاتحاد، وهو ما ينعكس سلباً على سرعة اتخاذ القرارات الأوروبية، والتي تتخذ بإجماع الدول الأعضاء، وليس بالأغلبية، وهو ما يمنح أي دولة حق نقض القرار الأوروبي المشترك. كما ترى فرنسا، والتي تربطها علاقات عسكرية وطيدة ببريطانيا، أن خروج الأخيرة من الاتحاد الأوروبي سيضعف من قدرة أوروبا على توفير الأمن لمواطنيها، نظراً لعدم قدرة بريطانيا على الحفاظ على عضويتها في أي من المؤسسات الأوروبية بعد بريكست".
وبالفعل إن عضوية بريطانيا في هذه المبادرة توفر حلولاً لعدد من المشاكل البريطانية، والتي ظهرت للعلن في الأشهر الماضية، خلال مفاوضات بريكست. فقرار بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يعني انسحابها من كافة مؤسساته، بما فيها مبادرة "بيسكو"، والتعاون الأمني والعسكري والاستخباراتي الذي تحظى به الآن، إضافة إلى حرمانها من عضوية برنامج "غاليليو" العسكري الأوروبي للأقمار الصناعية، والذي سيبدأ العمل به بعد عام 2019. وبالتالي فإن أي مبادرة أوروبية للعمل خارج مؤسسات الاتحاد الأوروبي تشكل حلاً للمخاوف الدفاعية البريطانية وتضمن لها مصالحها في مرحلة ما بعد بريكست.
كما أن بريطانيا، التي تعاني من ضغوط اقتصادية بسبب تبعات بريكست، ستستفيد حتماً من تكامل قدراتها الدفاعية مع جيرانها الأوروبيين، خصوصاً أن وزارة الدفاع البريطانية مطالبة برفع إنفاقها العسكري كي تحقق أهدافها الدفاعية. فقد قال قائد أركان الدفاع البريطاني السابق الجنرال نيك هوتون، إن "بريطانيا لا تستطيع تحقيق أهدافها الدفاعية اعتماداً على ميزانيتها الحالية". وأضاف في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية يوم الثلاثاء الماضي، أنه "يجب أن نتخذ قرارات صعبة. هل نرفع من ميزانية الدفاع كي نحقق أهدافها، أم نقلل من حجم قوتنا العسكرية ومن وضعنا العسكري دولياً؟". وأضاف "إننا نعيش كذبة إلى حد ما. ونقف على حافة مفترق طرق استراتيجي ويجب أن نتخذ قراراً بأحد الاتجاهين. وربما يكون القرار أن بريطانيا لم تعد بالقوة العسكرية العالمية".
وكانت لجنة الدفاع في البرلمان البريطاني قد أصدرت تقريراً يوم الاثنين الماضي، طالبت فيه برفع المساهمة البريطانية في ميزانية الأطلسي من 2 إلى 3 في المائة، وهو ما يعادل 60 مليار جنيه إسترليني (79 مليار دولار) سنوياً. وأن فشلها في عمل ذلك سيقلل من قدرتها على مواكبة القدرات العسكرية الأميركية ويقلص من نفوذها في الأطلسي. وتُعدّ هذه الجهود استجابة للضغوط الأميركية على الدول الأوروبية لتخفيض العبء المالي عن الولايات المتحدة التي توفر القسم الأكبر من ميزانية الأطلسي.
هذه الضغوط الأميركية تضاعفت منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فالدول الأوروبية تعتمد على الجهود العسكرية الأميركية بشكل رئيسي. كما أن الدول الأوروبية فشلت في التحرك في البلقان في تسعينيات القرن الماضي من دون الدعم الأميركي، كما أن بريطانيا وفرنسا طلبتا من أميركا التدخل للإطاحة بالقذافي في ليبيا بعد أن بدأتا الحملة العسكرية نظراً لعدم قدرة الدولتين على المتابعة وحدهما. وبالتالي فإن التحرك الأوروبي لتشكيل مبادرة التدخل العسكري يأتي في إطار الضغط الذي تمارسه إدارة ترامب، ولكن أيضاً كاستجابة للمخاوف من الافتراق الاستراتيجي بين أوروبا والولايات المتحدة، والذي يتمحور حول العلاقة مع روسيا.
فعدا عن الاتهامات بالتلاعب الروسي بالانتخابات الرئاسية الأميركية لصالح إدارة ترامب، والعلاقة الودية التي يكنها ترامب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يتصاعد التهديد الروسي للدول الأوروبية في السنوات الأخيرة، وتلجأ روسيا إلى استراتيجيات عسكرية عدة، تقليدية وغير تقليدية، لزعزعة الاستقرار الأوروبي. وكان آخر فصول هذه المواجهات الباردة بين الطرفين الأزمة الدبلوماسية التي تبعت محاولة اغتيال العميل المزدوج سيرغي سكريبال في مدينة سالزبيري البريطانية، وما تبعه من طرد للدبلوماسيين وإغلاق للقنصليات.
إلا أن هذه التطورات تثير قلق حلف شمالي الأطلسي ومؤسساته. فتشكيل مبادرة التدخل الأوروبي، إضافة إلى "بيسكو" قد تؤدي إلى تقويض عمل حلف الأطلسي من خلال تشكيل أطر للعمل خارج مؤسساته، إضافة إلى الفصل الدائم بين ضفتي الأطلسي. إلا أن الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبيرغ، والذي كان في لوكسمبورغ تحضيراً لقمة الأطلسي المقبلة في بروكسل الشهر الماضي قد قلل من هذه المخاوف قائلاً "أرحّب بهذه المبادرة لأنني أعتقد بأنها ستعزز من جاهزية القوات العسكرية. نحتاج لجاهزية عالية وهو ما يركّز عليه الأطلسي حالياً". وأضاف "أرى هذه المبادرة أمراً يكمل ويدعم العمل الذي نقوم به في الأطلسي".