في كلمته عن مجزرة المدرسة الابتدائية التي وقعت الثلاثاء، في ولاية تكساس وحصدت 21 قتيلاً حتى الآن، قال الرئيس جو بايدن إنّ هذا الوضع "مريض". قصد حوادث القتل الجماعي العشوائي التي تحولت إلى جائحة أميركية كانت آخر ضرباتها قبل أسبوع في مدينة بوفالو، التي سقط فيها 10 ضحايا.
فعلاً أميركا مريضة. وفي توصيف الرئيس اعتراف ضمني بالإحراج والقصور الفاضح وبثقل اللطخة على سمعة البلاد. فلا يستقيم إعطاء الأميركي الدروس للعالم عن الأمن والأمان وهما مفقودان في دياره. ولا يستوي الكلام عن حقوق الإنسان في الخارج في حين أنّ الولايات المتحدة مذبوحة بهذا الشكل المستعصي. تعترض واشنطن على حصد الأبرياء والمجازر التي يرتكبها الغير، وفي بيتها يجري نحر الأطفال من دون التصدي الجاد لوقف مسلسل هذه الجرائم.
ثم إنّ الحديث عن ثقافة السلام في باقي أصقاع الأرض لا يتماشى مع ثقافة العنف في الداخل. وكذلك لا يصحّ الحديث عن دولة القانون، فيما تعجز أميركا عن وضع السلاح تحت القانون وتتركه يهدد حياة الناس بهذا القدر من الجنون والعبثية. فالأميركي "لم يعد يعرف أين ومتى وكيف يموت"، بتعبير أحد المعلقين. فالمسألة صارت محرجة، والتضارب أصبح مكشوفاً، وإن العجز فاضح.
صرخة السناتور كريس ميرفي، في كلمة له في مجلس الشيوخ بعد المجزرة، تلخص المشهد العاجز، حين قال متسائلاً "لماذا نحن هنا وماذا نعمل هنا؟". صارت الصورة الشائعة أنّ أقوى وأقدر دولة لا تقوى على إرضاخ لوبي الأسلحة النارية وتغيير ثقافة شريرة. في كل مرة تحصل مجزرة من هذا النوع، يهرع حراس السلاح إلى سوق المبررات ومنها أنّ الجاني "مختل". لكن المختلين ليسوا حكراً على أميركا، كما قال الرئيس بايدن، ومع ذلك لا تقع فيها مثل هذه الفظائع. والمعروف أنّ بلداناً أخرى مثل أستراليا، كان السلاح الفردي فيها مباحاً لكن تزايد الجريمة فيها أدى إلى سنّ القوانين اللازمة التي قضت على الظاهرة.
في أدراج مجلس الشيوخ مشروع قانون يقضي بالتثبت من حسن سلوك المشتري قبل حصوله على طلبه، لكنه مجمّد منذ سنتين بأصوات الجمهوريين
اليوم أميركا لا يكاد يضاهيها بلد بوباء العنف والقتل الجماعي. كان السناتور جون ماكين يقول: "نحن شعب عنيف". عنف وسلاح مع بعض، نتيجتهما إدمان على سفك الدماء. خاصة وأنّ السلاح متروك على غاربه. الكونغرس المفترض أن يكون الطبيب المعالج لهذا المرض مرتَهن عموماً للوبي السلاح المؤثر في تمويل الحملات الانتخابية وفي استنفار قواعد المحافظين. واللوبي هذا لا يسمح بضبط بضاعته ولو بالحد الأدنى. فهو يصرّ على تركها تجارة مفتوحة وبيعها للراغبين بلا عوائق. حجته أنّ حمل السلاح يحمي الحريات ويجيزه الدستور وإن بتفسير ملتوٍ للنص. والكونغرس عموماً، متواطئ معه، حيث يمانع في تمرير حتى أبسط القيود في هذا المجال. في أدراج مجلس الشيوخ مشروع قانون يقضي بالتثبت من حسن سلوك المشتري قبل حصوله على طلبه، لكنه مجمّد منذ سنتين بأصوات الجمهوريين.
في بعض الولايات مثل تكساس، صار بيع السلاح ميسوراً لمن هو في سن تحت العشرين، كما هي حال مرتكب مجزرة اليوم. وأيضاً صار حمله مباحاً في أي مكان وحتى في الكنيسة. فكان أن توفرت الأسلحة الفردية بكافة أصنافها، ومنها ما تستخدمه القوات المسلحة وبالتالي استمرت دوامة القتل.
في آخر 10 سنوات، حوالي 900 حادثة عنف وقعت في المدارس الأميركية، إضافة إلى وجبات القتل بالجملة في شتى الأماكن، مثل مراكز العمل والجامعات وأماكن الترفيه وغيرها. وفي كل مرة تذرف بعض دموع التماسيح في الكونغرس، وترتفع بعض الأصوات المطالبة بضرورة وقف انفجار توفر السلاح. لكن الموضوع سرعان ما يجري تجاهله ليدخل من جديد في النسيان ومعه "تعود حليمة إلى عادتها القديمة"، بانتظار وجبة حصاد أرواح مجانية جديدة صارت بطريقتها وحجمها ماركة مسجلة تحتكرها أميركا.