لا تتوقف محاولات غسل الأدمغة وأسرلة الفكر الفلسطيني، منذ قيام الكيان الصهيوني المحتل في العام 1948، بل ازدادت هذه المحاولات في الفترة الراهنة، خصوصاً بعدما انتفض الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده في الداخل الفلسطيني عقب أحداث الشيخ جراح في مايو/أيار الماضي في ما عُرف بـ"هبّة الكرامة".
وتكثّف سلطات الاحتلال العمل على هذا الجانب، لمحاولة السيطرة على العرب الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948، حتى لا تضطر في أي مواجهة مقبلة للتصدي لجبهات مختلفة، معتقدة بذلك أنّها تتغلغل داخل هذه الجبهة بحكم أنها تحت سيطرتها الكاملة.
وفي هذا السياق، تبرز محاولة تجنيد الفلسطينيين في الداخل المحتل في صفوف جيش الاحتلال. واشتعل الفلسطينيون غضباً بعدما قدّم الإعلام الإسرائيلي تقريراً حول مدرسة عربية في النقب، تشجع طلابها على الانخراط في الجيش الإسرائيلي، لتُطرح أسئلة عما يجري في المدارس العربية في الأراضي المحتلة عام 1948، وهل هذه هي المدرسة الوحيدة التي تشجع مثل هذه الأنشطة، أم أنها، وبحكم تبعيتها لوزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، مجبرة على تمرير أجندات تمليها عليها سلطات الاحتلال؟
من جهتها، أصدرت لجنة التوجيه لعرب النقب، بياناً رافضاً لهذا المشروع، دعت فيه أولياء الأمور أيضاً إلى متابعة كل ما يتعلق بالمسيرة التعليمية لأولادهم في المدارس وكافة النشاطات التي ينخرطون فيها، منهجية كانت أو غير منهجية.
تسعى وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية لإدخال فعاليات إلى كافة المدارس، من ضمنها ما يتعلق بالجيش الإسرائيلي
وجاء في نصّ البيان: "نلاحظ في الآونة الأخيرة ظاهرة في منتهى الخطورة، تستهدف الوعي، الهوية والانتماء لطلابنا في المدارس، وتسعى السلطات الإسرائيلية بما فيها الجهات الأمنية لتحويل المدارس إلى مصانع لغسل الدماغ وتخريج أجيال غريبة عن بُعدها العربي وعمقها الحضاري وقيمها الإسلامية، وصهينة الوعي وتبني الرواية الصهيونية وشطب الرواية الفلسطينية والحق التاريخي للشعب الفلسطيني في فلسطين".
وتابع البيان: "نؤكد حقنا على إدارة تربوية عربية مستقلة لها خصوصيتها في وزارة المعارف، أسوة بالجهاز التربوي لليهود المتدينين وغيرهم، للحفاظ على خصوصيتنا وتمايزنا الحضاري، الثقافي والوطني، فمن حق الأهالي وفقاً للقانون المشاركة في مضامين برامج التعليم من خلال لجان الآباء".
ودعت لجنة التوجيه لعرب النقب إلى "ضرورة إحياء المناسبات الوطنية، الاجتماعية والدينية، لتعزيز الانتماء في أوساط شريحة الطلاب"، مطالبة مدراء المدارس بأداء "رسالتهم المقدسة في التربية والتعليم بعيدا عن أسرلة وعي أبنائنا، وتعزيز انتمائهم للعمق العربي والإسلامي".
وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية وأنشطة غسل الأدمغة
وتسعى وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية لإدخال فعاليات إلى كافة المدارس، ومن ضمنها المدارس العربية، سواء في النقب أو الشمال والمركز. ومن ضمن هذه الفعاليات، ما يتعلق بالجيش الإسرائيلي، إذ يزور جنود متطوعون (بعضهم عرب) وبتنسيق مسبق بين وزارتي الجيش والتعليم، المدارس، لتقديم نشاطات للطلاب خارج المناهج.
وتدعي الجهات القائمة على هذه الأنشطة، أنها تعزز الاعتماد على النفس والثقة لدى الطلاب، وتقدم لهم الكثير من المهارات الحياتية والعلوم. لكن الواقع هو أن هذه الأنشطة تؤدي إلى تشويه مفاهيم وعقائد الطلاب الفلسطينيين في أراضي الداخل المحتل.
وتصل الأمور إلى درجة اقتياد هؤلاء الطلاب إلى معسكرات جيش الاحتلال، وتصوير الأمر لهم على أنها مغامرة ستجعلهم أقوى وأفضل من أقرانهم الرافضين للمبدأ برمته.
مغريات للانخراط في جيش الاحتلال
وتتطور الأمور من مجرد فعاليات في المدارس إلى متابعة تامة وتشجيع وتحفيز وتقديم مغريات كثيرة، كقسائم البناء التي يحصل الجنود على الأولوية فيها، والعمل والتعليم الجامعي والمنح وغيرها. ويؤدي ذلك إلى تورط بعض الطلاب الفلسطينيين في الانخراط في صفوف الجيش الإسرائيلي، ظناً منهم أن ذلك هو الخلاص من كافة عقبات الحياة مستقبلاً.
مثل هذه الأنشطة، كثفتها السلطات الإسرائيلية أيضاً بعد التراجع الحاد جداً في انخراط العرب البدو في صفوف جيشها، لا سيما بعد الأحداث الأخيرة. لكن إعادة تسليط الإعلام الإسرائيلي الضوء عليها، وبهذا الشكل، وتحديد مدرسة بعينها ومديرها، والادعاء بأنه قائد ثورة انخراط العرب في الجيش الإسرائيلي في الجنوب، أدى إلى اشتعال الرأي العام في النقب حول القضية.
رسالة يواف غالانت
وعند التواصل مع بعض مدراء المدارس حول مسألة تمرير نشاطات داخل المدارس تشجع الطلاب العرب على التجنّد في الجيش الإسرائيلي، اتضح أن الأمر هو في يد مدير المدرسة، الذي لا يُجبر من قبل أي جهة كانت، على تمرير مثل هذا النشاط. ولكن عندما كان يواف غالانت موكلاً بحقيبة وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، قبل أقل من عامين، أرسل رسالة في البريد الإلكتروني إلى مدراء المدارس.
كثفت السلطات الإسرائيلية أنشطتها بالمدارس بعد التراجع الحاد في انخراط العرب البدو في صفوف جيشها
وكانت الرسالة واضحة، وكأنها كتبت بنص عسكري (بحكم رتبته العسكرية السابقة في الجيش الإسرائيلي)، بأن أي مؤسسة أو جمعية أو حراك يناهض التجنيد في الجيش الإسرائيلي أو الخدمة المدنية لا يسمح باستقباله داخل المدارس. وشكّل ذلك ربما رسالة تهديدية إلى كافة المدراء، بمن فيهم العرب، ما دفع البعض منهم إلى فتح أبواب مدارسه على مصراعيها أمام تلويث عقول الطلاب العرب.
الطلاب العرب ومعركة هندسة الوعي
وتعليقاً على ذلك، أكد الناشط النقباوي، عامر الهزيل، "أننا في المعركة على الإنسان وعلى هندسة وعي الأجيال، نحن في صدام مع الاستعمار، وفي المعادلة الأهم (بناء الإنسان للحفاظ على الوجود والوطن)، هؤلاء الأطفال هم ضحايا ويجب الدفاع عنهم وإنقاذهم". وتابع الهزيل أن "الصراع على هندسة الوعي وبناء الإنسان مهمتنا أيضاً".
وفي السياق، شدّد الناشط رأفت أبو عايش، على "أن المجتمع النقباوي ضد التجنيد جملةً وتفصيلاً، وضد العمل في كل الأنشطة التي تصب في خانة الاحتلال".
وأضاف أن "مقولة إن لم تستح فافعل ما شئت، لم تعد تفي بالغرض لوصف سقف النذالة الذي يصله البعض، فسمسار الأرض ووكيل التجنيد لا مِلّة له، عبيد المنزل وعبيد المال عبيد الاحتلال ليسوا منا"، على حدّ تعبيره. وشدّد على أن "الرد المجتمعي واجب أخلاقي على كل شريف".
من جهته، أعرب رئيس حزب "كرامة ومساواة" محمد السيد، عن صدمته من خبر المدرسة في تقرير الإعلام الإسرائيلي، لكن أضاف أنه عندما بحث عن الموضوع، وجد "أنّ هذا البرنامج المسمى (جدناع) موجود في كل المدارس العربية، وهو يهيئ الطلاب الأبرياء، ليس بالضرورة للالتحاق بالجيش، ولكن في هذا الاتجاه".
ولفت السيد إلى أن "هناك جهات سياسية وحزبية عدة تعمل على هذا البرنامج، وكتيبة جدناع هي القائمة عليه". وأوضح أنه تواصل مع وزارة التربية والتعليم وأبلغته أن لا علاقة لها بالبرنامج، وإنما هو اجتهادات شخصية لمدراء المدارس والقائمين على البرنامج.
وحذّر رئيس حزب "كرامة ومساواة" من أن بعض البرامج تعمل على تشجيع الخدمة المدنية، والتي هي توطئة للخدمة بالجيش أو بديل لها، وذلك مقابل امتيازات كثيرة، منها القبول في الجامعات والمقابل المادي أحياناً، وهو ما يتم بعلم ودراية المدراء والمعلمين وأعضاء الكنيست.
وتابع السيد: "عندما نرفع شعاراً هنا وهناك، ونترك القضية الأساسية، فإن هناك من يمرّر مشاريع من هذا النوع". ونبّه من أن "البعض يرفع شعار الخدمة المدنية بدل الخدمة بالجيش وكلاهما واحد، ويبرر البعض ذلك من خلال العمل في مجالس محلية أو رياض أطفال وكل هذا توطئة لما هو أسوأ".
وقال السيد إنه "عندما تأتي مجموعة من ضباط الجيش باللباس العسكري وتمرّر محاضرات للطلاب، فهذا توجيه بشكل واضح إلى التجنيد، فما بالك إذا أخذنا أطفالاً وألبسناهم الملابس العسكرية وتلقوا محاضرات من ضباط؟".
ورأى إن الأطفال "لا يلامون لأنهم لا يستوعبون فداحة الأمر، ولكن ينبغي على أولياء أمورهم الانتباه والتصدي لمحاولة سرقة أبنائنا وتذويبهم وسلخهم عن هويتهم الوطنية الفلسطينية". ورأى أن "الجيش الإسرائيلي يحاول الآن التركيز على هذا المشروع بسبب التراجع الحاد في انخراط البدو في النقب في الجيش الإسرائيلي".