الحدث الأخير الذي أدّى بشكل مباشر لاستقالة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون المعروف بعناده، كان الاستقالات المتهافتة على مدى يومين، والتي بات من الصعب إحصاء عددها لأنها تزيد كل بضع دقائق. وتلك الاستقالات جاءت بعد استقالة اثنين من أبرز وزرائه وأبرز المرشّحين أيضاً لخلافته، وزيري المالية ريشي سوناك والصحة ساجد جافيد.
وشكّلت الاستقالتان ردّ فعل مباشرا على الرسالة التي وجّهها كبير موظّفي الخدمة المدنية سيمون ماكدونالد، إلى لجنة المعايير في البرلمان، متّهماً فيها "داونينغ ستريت" بإخفاء الحقيقة وتضليل الصحافة والرأي العام، عبر نفيه لخمسة أيام أي اطلاع لرئيس الحكومة على السلوك "غير اللائق" لكريس بينشر، قبل أن يعيّنه في منصب نائب رئيس الانضباط الحزبي. وفجّرت رسالة ماكدونالد الغضب المكتوم في صفوف "حزب المحافظين" كما أنها غيّرت معادلة الولاء والحسابات السياسية والحزبية، إذ قلبت عليه الحلفاء قبل الأعداء.
وكان لافتاً أن العامل الخفي الذي أدّى لاستقالة جونسون المتشبّث بالكرسي بشكل غريب، هو العامل نفسه الذي أشعل شرارة الغضب منه وساهم بتردّي شعبيته قبل أشهر. عامل الإنكار والنفي واللامبالاة. قبل أشهر، نفى جونسون إقدامه على خرق القانون المتعلق بكوفيد-19، منكراً إقامته تجمّعات في مقرّ عمله في "داونينغ ستريت". ثم كشفت التحقيقات أنه أقام تلك التجمّعات، وأنه كذب بشأنها، وأنه خرق القانون الذي سنّه هو قبل مدة مطالباً ملايين البريطانيين بالتزام منازلهم تحت طائلة المسؤولية. ثم أصدرت الشرطة غرامة بحقّه ليكون بذلك أول رئيس للوزراء في بريطانيا تصدر بحقّه غرامة. وسبق تلك الضجّة المتعلقة بقضية "حفلات داونينغ ستريت"، سياسة وصفت بالمتهورة في ما يتعلق بمواجهة جائحة كوفيد-19 العالمية. إذ تأخّر جونسون كثيراً قبل أن يفرض إجراءات الحماية والوقاية من الفيروس، مفضّلاً الاقتصاد على ملايين الأرواح.
إلا أن خرقه للقانون لم يكن وحده كافياً للإيقاع به في بلد ديمقراطي يحقّ فيه للشارع أن يختار مرشّحه الأفضل. المشكلة أن جونسون لم يكن ممتنّاً لنجاته من تلك الأزمة الأولى، معتقداً أن الأصوات الموالية له مضمونة وأن شعبيته ستتغلّب على هفوة صغيرة كهذه. وبالتالي، لم يجد سبباً يدفعه لتغيير سلوكه، مكتفياً بالاعتذار مرات ومرات. واعتذاره كان لاهياً في أغلب الأحيان، ينطق به على مضض، مبتسماً كالأطفال المذنبين والمدركين في سرّهم أنهم محبوبون رغم كل ما يحدثونه من دمار.
ثم جاء تقرير كبيرة موظّفي الخدمة المدنية سو غراي، والذي يثبت بما لا يقبل الشك، خرقه للقانون، وأيضاً التجاوزات التي حدثت في مقرّ إقامته وعمله خلال تلك التجمّعات. كان التقرير مهيناً بحق المنصب وبحق العاملين أيضاً في كل الدوائر المحيطة بجونسون، القريبة منها والبعيدة، الموالية والمتمرّدة. تجمّعات تصل الليل بالنهار، إهانات تعرّض لها عمّال النظافة في "داونينغ ستريت"، آثار القيء مطبوعة على السجّاد الفخم، والجدران ملطّخة بالنبيذ الأحمر، حالات سكر ولهو وعبث في الوقت الذي كان فيه ملايين المقيمين في بريطانيا حبيسي منازلهم. أثار التقرير سخط الكثيرين من حزبه وبعض المقرّبين منه. إلا أنه لم يستقل ولم يكترث، واكتفى مجدّداً بالاعتذار مجرياً تعديلات على قانون الوزراء بما يتيح للوزراء خرق القانون ثم الاعتذار وليس التنحّي. وتخلّلت تلك العواصف الداخلية زيارتان "مفاجئتان" إلى كييف والعديد العديد من الاتصالات الهاتفية بينه وبين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. إضافة إلى اجتماعات دولية حول قضايا مهمّة كتعزيز حلف "الناتو"، وتضييق الخناق على موسكو عبر عقوبات غير مسبوقة.
ثم جاءت التعديلات التي تمسّكت بها الحكومة بعناد، والتي طرحتها كمشروع قانون لحذف أجزاء كبيرة من بروتوكول أيرلندا الشمالية من طرف واحد، ما وصفه الجانب الأوروبي بالانتهاك الواضح للقوانين الدولية. إلا أن جونسون كان متهماً مسبقاً بخرق القانون. فجاء مشروع القانون هذا ليعزّز تردّي سمعة جونسون داخلياً وأيضاً لدى بعض الأطراف الدولية الأساسية. هذا عدا عن أن ليس الاتحاد الأوروبي وحده المعني ببروتوكول أيرلندا الشمالية، بل الولايات المتحدة الأميركية أيضاً.
قبل أن يطرح جونسون مشروع القانون الذي "ينسف" سياسة الخروج من الاتحاد الأوروبي المتفّق عليها منذ ثلاث سنوات؛ كان قد عجّل من تنفيذ خطة رواندا المثيرة للجدل، والتي وصفها الأمير تشارلز بالمروّعة. وكانت الطائرة الأولى التي سترحّل ثمانية لاجئين إلى العاصمة الرواندية على وشك الإقلاع وسط تنديد محلي وعالمي؛ حين تدخلت في اللحظات الأخيرة المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لتمنعها من إنجاز الرحلة. فسارع جونسون للتلويح بالانسحاب من الاتفاقية الأوروبية، بينما قدّم نائبه ووزير العدل دومينيك راب مشروع قانون للبرلمان لتعديل قانون حقوق الإنسان، بما يتوافق مع سياسة الحكومة المعادية للاجئين. واللافت أن ملف الهجرة كان أساسياً في تصويت الأغلبية على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولكن بعد ثلاث سنوات على "بريكست"، لم يتوقف تدفّق اللاجئين عبر المانش، بينما تراجعت مخاوف الشارع البريطاني من ملف الهجرة.
تزامناً مع كل تلك الأحداث، كان غلاء المعيشة يفتك بالبريطانيين وسط عجز الحكومة عن الإحاطة بارتفاع غير مسبوق في أسعار المواد الغذائية والطاقة والوقود وقيمة الضرائب ووصول التضخّم إلى مستويات استثنائية.
جرى بعدها تصويت على حجب الثقة، نجى منه جونسون لكنه فقد 41% من ثقة نوّاب حزبه. ولم يكن هذا الرقم الكبير مؤشراً بالنسبة لرئيس الوزراء على تراجع شعبيته وعلى استقراره أكثر فأكثر في مرحلة الخطر. اعتبره انتصاراً وبالتالي لم يجد أيضاً تلك المرة أي داعٍ لتغيير سلوكه، أو لتعويض الخسائر التي مني بها هو وحزبه، أو للتعلّم من تيريزا ماي، التي استقالت بعد ستة أشهر من فوزها في تصويت مماثل عندما كانت رئيسة للوزراء. ثم جاءت الهزيمة المدوية التي مني بها الحزب بسبب زعيمه في الانتخابات الفرعية، وقد تخلّت عنه مناطق معروفة تاريخياً بولائها للمحافظين. إلا أنه لم يكترث. ظلّ في حال إنكار حتى وقت متأخر من ليلة البارحة، حيث أعلن أنه يحصل على دعم معظم نوّابه.
سيستقيل جونسون لأن الفطرة السياسية والغرائز لا تكفي وحدها للنجاة. ولأن الأطفال المحبوبون يفقدون بعضاً من وداعتهم مع مرور الوقت وتراكم الدمار الذي يسبّبونه. غريزة الخروج من الاتحاد الأوروبي، وغريزة الدفاع المستميت عن أوكرانيا، تقابلها غريزة تجاهل القواعد وعدم الإصغاء للنصيحة، وعدم التعلم من الأخطاء.
يستقيل اليوم جونسون ليس لإنقاذ سمعته ولا سمعة الحكومة ولا الحزب، يستقيل لأنه أقيل في الواقع، ولأنه فقد كل الفرص الممكنة للبقاء، وإلا لما كنّا نحضّر الآن لاستقالته وللمرشّحين لخلافته.