لمدة طويلة بقي كشف النقاب، في عام 2000، عن اغتيال أكثر من مائتي مدني فلسطيني على يد القوات الإسرائيلية في قرية الطنطورة، موضوع تكذيب. وقد تعرض صاحب هذا الكشف إلى القذف والنبذ والتهميش. يأتي فيلم، بعد عشرين عاماً، ليؤكد عمله: لقد وقعت مذبحة الطنطورة فعلاً.
كان ذلك عام 2000، وكانت إسرائيل تعرف قضية، كما تلك التي تظهر بين الحين والآخر: "قضية كاتس" بالنسبة للبعض، و"قضية الطنطورة" بالنسبة للبعض الآخر. كانت القضية تثير اهتمام عدد قليل من المتخصصين ولم تتصدر عناوين الجرائد. لكنها سرعان ما أثارت سجالات عامة. كتب طالب في جامعة حيفا، تيودور (تيدي) كاتس، ولم يكن صغيراً تماماً، أطروحة ماجستير حول ما حدث، يوم 23 مايو/أيار 1948، في الطنطورة، وهي قرية صيد فلسطينية تبعد 20 كيلومتراً عن حيفا، أي بعد ثمانية أيام بالضبط من إنشاء دولة إسرائيل، في وقت كانت فيه الحرب العربية الإسرائيلية الأولى بالكاد قد بدأت.
"لم أستطع تحمل ذلك"
قادت سنتان من البحث كاتس إلى استنتاج أنه بعد انتهاء معركة قصيرة انتصرت فيها القوات الإسرائيلية، ارتُكبت جريمة في هذه القرية من قِبل الكتيبة 33 من لواء الإسكندروني البلماح، مليشيا النخبة المسلحة للحركة العمالية، المهيمنة في ذلك الوقت في المعسكر الصهيوني (لن يتم إنشاء الجيش الإسرائيلي رسمياً إلا بعد أسبوع من ذلك).
الناجون الفلسطينيون، الذين أصبحوا لاجئين، والذين التقى بهم كاتس، تحدثوا جميعاً عن مذبحة حصلت خارج أي قتال. يستشهد معظمهم بأخ أو أب أو ابن أو زوج "أُخذ ولم يعد أبداً". وقال شلومو عنبار، الذي كان ضابط صف في ذلك الوقت (أصبح جنرالاً في ما بعد)، ووصل إلى مكان الحادث بعد المذبحة، لكاتس: "عندما رأيت ما فعله الجنود، لم أستطع تحمّل ذلك، غادرت". لكنه رفض في وقت لاحق الإدلاء بشهادة لصالحه.
الناجون الفلسطينيون، الذين أصبحوا لاجئين، تحدثوا جميعاً عن مذبحة حصلت خارج أي قتال
كان كاتس آنذاك عضواً في أحد الكيبوتسات من الفئة الأكثر يساراً في إسرائيل. وكان أيضاً يناضل في "ميرتس"، حزب اليسار الصهيوني. أجرى طالب الدكتوراه مقابلات مع 135 شخصاً، من بينهم 65 من سكان القرية السابقين (كثيرون منهم لاجئون في الضفة الغربية) و20 عضواً في اللواء الإسرائيلي، بالإضافة إلى ضباط كبار وأشخاص من محيط الطنطورة، من الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين. كانت القرية التي كان يعمل على تبيان مصيرها تضم 1500 نسمة.
وبقصد تسريع عملية طردهم، وفق كاتس، قام الجنود الإسرائيليون أولاً بفصل النساء والأطفال وكبار السن عن الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 14 و50 عاماً. وبعد عدة عمليات تدقيق، توصل إلى أن 90 منهم قُتلوا في الشاطئ، والكثير من الآخرين قُتلوا في الشوارع أو حتى داخل منازلهم. قدّم الطالب أطروحته في مارس/آذار 1998، وحصلت على درجة عالية بـ97 من أصل 100 من قبل لجنة تحكيم الجامعة.
لواء أسطوري من "حرب الاستقلال"
في يناير/كانون الثاني 2000، تطرقت صحيفة "معاريف" إلى عمل كاتس، وأعطت الكلمة لضباط اللواء الإسرائيلي الذين كانوا ما زالوا على قيد الحياة. وقام هؤلاء بإدانة عمل "مزيف". وقدّم جميعهم الرواية نفسها: كانت هناك معركة، معركة حقيقية، ولكن لم يتم ارتكاب مذبحة. وقاموا بمقاضاة كاتس بتهمة التشهير.
لن نتوقف لاستعراض تفاصيل هذه المعركة غير المتكافئة بين المؤرخ المتدرب ضد القوة التي يشكلها قدامى المحاربين من لواء أسطوري في "حرب الاستقلال" الإسرائيلية. كان كاتس وحيداً. وسرعان ما تهاطلت الهجمات عليه من جميع الجهات. بسبب جملة لم تكن صياغتها جيدة والتي لا علاقة مباشرة لها بالوقائع المشار إليها، اتُهم طالب الدكتوراه من قِبل محامي المدعين بتلفيق أدلة.
نفى ضباط اللواء الإسرائيلي ارتكاب مذبحة متحدثين عن حصول معركة
تعرّضت زوجته باستمرار لمضايقات عبر الهاتف: "يا عاهرة، سترين ماذا سنفعل بك وبزوجك الخائن". انهارت الزوجة. تمكن خصومه من إقناع تيدي كاتس بالتحدث معهم في غياب محاميه. وعرضوا عليه "تسوية": يتراجع عن أطروحته وسيسحبون شكواهم. كانت زوجته تؤيد ذلك. وأشار الطرف الخصم إلى أن كاتس لا يستخدم في أطروحته كلمة "مذبحة"، بل يتحدث عن "قتل جماعي". ولذلك، لن يكون لديه أي سبب لعدم التراجع، كما قال له خصومه. استمر الأمر لساعات. وأخيراً، وقّع كاتس، الذي واجه محامي الطرف الخصم وحده، على نص اعترف فيه بأنه "زوّر الشهادات بشكل منهجي". وأضاف بأنه "لم تُرتكب أي مذبحة على يد جنود كتيبة الإسكندروني". ولم يخبر بذلك حتى محاميه.
ثم عاد كاتس إلى المنزل. ولم ينم طول الليل. وفي اليوم التالي، مثل أمام المحكمة وأخبر القاضية أنه مرّ بـ"لحظة ضعف" وأنه ينبذ الاعتراف الذي وقّع عليه. كان قد فات الأوان. عادت القاضية بعد تعليق الجلسة لمدة ساعتين لتعلن صحة الإقرار الذي وقّعه كاتس.
انتهت المحاكمة، ورفع أعضاء لواء الإسكندروني الشمبانيا. لم تعد حاجة لكي يسافر الناجون الفلسطينيون الذين كان من المقرر أن يأتوا للإدلاء بشهاداتهم وتأكيد أطروحته الأولى. ولم تستمع إليهم أي محكمة على الإطلاق. ونشرت الصحف تصريح كاتس بلذة كبيرة. توجّه الطالب إلى المحكمة العليا لطلب استئناف المحاكمة. قوبل طلبه بالرفض. وجعلت جامعته منه منبوذاً وأبطلت أطروحته، تصوروا، مزوِر! وقامت الجامعة بعد ذلك بطرد إيلان بابي من صفوفها وهو الأستاذ الوحيد الذي دعمه علناً.
في عام 2005، كنت قد بدأت في تحرير كتابي "المطمورون، المجتمع الإسرائيلي في طريق مسدود" (منشورات لا ديكوفيرت 2006) بسرد هذه القضية، التي بدت لي مشخّصة للعلاقة الرسمية الإسرائيلية مع ماضي البلاد، وهي علاقة محكومة منذ البداية بإنكار الوقائع والحقائق. لقد التقيت كاتس وبابي مطولاً. كاتس، الذي كان ينظر إلى نفسه دائماً على أنه صهيوني متحمس، لكنه ملتزم بالحقيقة التاريخية، كان رجلاً محطماً. أما بابي، فقد كان في حالة خيبة أمل، حيث بدا له أن المجتمع الإسرائيلي غير قادر على تجاوز الإنكار والأكاذيب. وقد غادر إسرائيل بعد ذلك بقليل لمواصلة مسيرته المهنية كمؤرخ في جامعة بريطانية.
مرّ أكثر من عشرين عاماً على ذلك. وها هو اليوم [2022] يتم بث في إسرائيل، فيلم وثائقي معنون ببساطة "الطنطورة"، من إنجاز المخرج ألون شوارتز بمساعدة المؤرخ آدم راز. يقدّم هذا الفيلم شهادات للعديد من جنود لواء الإسكندروني. وكلهم تجاوزت أعمارهم 90 عاماً، وهم يقولون علناً أن كاتس كان على حق: لقد ارتكب لواؤهم بالفعل مذبحة في الطنطورة في 23 مايو/أيار 1948.
"كنت قاتلاً"
يُقدّر المدعو ديامانت، من سكان المدينة القريبة من زخرون يعقوب والذي كان متواجداً في المكان، عدد القتلى بأكثر من 200. لماذا لم يقل أي شيء من قبل؟ يجيب: "لا رأيت شيئاً، ولا سمعت شيئاً". ويضيف: "طبعاً، كنا جميعاً نعرف"، في إشارة إلى الجنود الآخرين الذين التزموا الصمت أو أنكروا في عام 2000، مستدلاً على أن قاعدة الصمت والإنكار كانت من مكونات جرائم ذلك الوقت.
يتذكر الجندي أميتزور كوهين سلوكه آنذاك ويقول في الفيلم: "كنت قاتلاً؛ لم أكن آخذ أي سجناء". كم رجلاً قتلت؟ "لم أحسب. كان معي رشاش به 250 رصاصة في المخزن. لا أستطيع أن أقول كم (مات)".
ويشرح الجندي ميشا فيتكون أنه رأى أحد الضباط، ناخمان كرمي، "وهو رجل مجنون قليلاً، (...) يطلق النار على عربي تلو الآخر بمسدسه بارابيلوم". لقد كان لكرمي هذا مسار مهني ناجح في وزارة الدفاع.
ويروي الجندي حاييم ليفين كيف اقترب زميل من مجموعة مكونة من 15 إلى 20 فلسطينياً، وكان يحمل سلاحاً رشاشاً في يده، و"قتلهم جميعاً". ويتحدث آخر عن الجنود الإسرائيليين الذين "كدسوا الناس في برميل ثم أطلقوا النار عليهم. أتذكر الدم الذي كان يتدفق من البرميل".
باختصار، بقدر ما كانت مجزرة، كانت أيضاً عملاً وحشياً. الفيلم الوثائقي ساحق. بما في ذلك على القاضية درورا بيلبال، التي أنهت المحاكمة ومنعت الاستماع إلى الشهود الفلسطينيين والتي أقرت، بعد مرور 22 عاماً وبعد فوات الأوان، بأنها ربما تصرفت بشكل سيئ.
تم تدمير الطنطورة بسرعة كبيرة من قبل إسرائيل، كما حال مئات القرى الفلسطينية الأخرى
تم، كما يُتصور، تدمير الطنطورة بسرعة كبيرة من قبل إسرائيل، كما كان حال عدة مئات من القرى الفلسطينية الأخرى. وقد أقيم على أراضيها كيبوتس نحشوليم وشاطئ يحظى بشعبية كبيرة لدى السباحين الإسرائيليين، دور بيتش. من منهم يعرف أنه تحت الرمال الناعمة هذه هناك عدد غير معروف من الفلسطينيين مدفونين، من بين الذين قُتلوا في مذبحة ارتكبتها بدم بارد قوات النخبة الإسرائيلية؟ في أطروحته، يسأل تيدي كاتس شاهداً يهودياً، يدعى موتيل سوكولر، وهو مدني تم استدعاؤه لدفن جثث الضحايا الذين تم اقتيادهم إلى الشاطئ، كم كان عددهم. أجاب الرجل بأنه "توقف عن العد" بعد 230 جثة.
بلد ولد من الخطيئة
يضع هذا الفيلم الوثائقي، الذي تم عرضه في نهاية يناير في الولايات المتحدة في مهرجان صندانس الذي أنشأه الممثل روبرت ريدفورد، حيث لاقى استحساناً، حداً نهائياً للجدل والإنكار المثير للشفقة للمؤرخين الإسرائيليين الرسميين. إنه بالطبع انتصار لتيدي كاتس، الرجل الذي كشف النقاب عن الجريمة. لكن هذا النصر تم تحقيقه بثمن باهظ. ويبقى أن نلاحظ هذا النزوع لدى بعض الفاعلين أو الشهود اليهود الإسرائيليين لحرب 1948 الذين يبدو أنهم، بعد أكثر من 70 عاماً، وهم يقتربون من المغادرة النهائية، يريدون تطهير ضمائرهم قليلاً قبل أن يختفوا.
قضى يعقوب شاريت، نجل موشيه شاريت (الذي كان رئيساً لوزراء إسرائيل بعد ديفيد بن غوريون)، معظم حياته المهنية في "شين بيت"، الجهاز الخاص المكلف بشكل أساسي بقمع الفلسطينيين. قبل أربعة أشهر، صرح لصحيفة "هآرتس": "وُلدت إسرائيل من الخطيئة. لقد عملت لصالح بلد مجرم". كان عمره حينها 95 عاماً، وقال إنه أصبح بصفة نهائية "مناهضاً للصهيونية".
ينشر بالتزامن مع https://orientxxi.info/ar
نشر التقرير باللغة الفرنسية للمرة الأولى في فبراير/شباط 2022