يعلم الليبي جيداً أن كل الاتفاقات والمبادرات المتتالية طيلة سنوات أزمة بلاده، زادت من معاناته الحياتية ومزقت بلاده، بل وهي في طريق التفتيت، وفيما انتهت بعض المسارات إلى اتفاق، كالمسار العسكري، وبعضها يكافح من أجل الوصول إلى اتفاق، كالسياسي، يبقى المسار الاقتصادي الذي يمثل طريق استمرار الأزمة ومفتاح حلها أيضاً، مغيباً.
المتابع لخلفيات الأزمة، عبر سنواتها العشر، يلحظ أن الاقتصاد وراء تفاقمها، فيما الخطابات المناطقية التي يطلقها المتصارعون تتزايد كثافتها كل يوم، ويستثمرها كل طرف. كان التهميش والفيدرالية والسيطرة على النفط، الوتر الذي لعب عليه اللواء المتقاعد خليفة حفتر ليحوّل أبناء المناطق الشرقية إلى خزان بشري لحروبه، وفي الغرب استُخدمت خطابات للتحشيد ضد "الغزاة" من الشرق. خلال كل ذلك، باتت العقول تستمرئ بشكل اعتيادي مسميات مثل "التحرير والعدو والعودة من حيث جاؤوا"، وكأنه قتال من أجل استعادة الجولان المحتل مثلاً، بل أيضا تراهم استساغوا مصطلحات كـ"الهدنة ومناطق منزوعة السلاح"، وكأنه صراع وحرب بين شعبين أو أمتين، وليس نزاعاً ليبياً مسلحاً يمكن أن ينتهي باتفاقات اجتماعية وصلح، كما اعتاد سكان البلاد في حالات تاريخية معروفة.
كل المطالب المناطقية يقف وراءها الاقتصاد، وقد تبدو واقعية، مثل المطالبة بتفعيل الإدارة المحلية في البلديات أو المحافظات لإذابة المركزية، لكن خطاب الكراهية المكرس لمفهوم الإقليم وربما التقسيم وفق الأساس الفيدرالي، تغوّل مع الوقت، متغذياً على الحروب التي كرست المناطقية والعنصرية، لتتحول تلك المطالب العادلة إلى رفض لمبدأ التعايش السلمي، وغير خافٍ وقوف أطراف إقليمية ودولية وراء تكريس مثل هذه المفاهيم لضمان مصالحها.
يدرك الليبي بوضوح أن أقرب مقاربات الحل ستكون اقتصادية للاستجابة لتلك المطالب العادلة، وبدلاً من خطاب الكراهية وتكريس التقسيم يمكن أن تظهر مصطلحات كتوزيع الثروة، والعاصمة الاقتصادية، والفرص المتساوية في التوظيف، وتوزيع المؤسسات السيادية. خلال شهرين عُقدت عشرات الجلسات في المسار السياسي، وأكثر من ست للمسار العسكري، فيما لم تتوقف المؤتمرات الصحافية للأمم المتحدة لإطلاع الرأي العام على نتائجها، مشددة على ضرورة توقف التدخل الخارجي في البلاد. لكن ماذا عن المسار الاقتصادي الذي لم تخصص له سوى جلستين، الأولى مطلع العام الحالي في القاهرة، والثانية قبل أسابيع في جنيف، من دون أن يُعرف مَن هم المشاركون الليبيون في الاجتماعين، ولا حتى النتائج، وسط تساؤلات عن سبب دعوة الأمم المتحدة لعدة دول للمشاركة في الاجتماع الأخير في جنيف، على الرغم من أنه مسار اقتصادي ليبي؟