وسط ما تعانيه ليبيا من أزمات وتشظٍ متلاحق نتيجة الصراع السياسي الحاد، تتحرك عواصم كبرى لتنفيذ مشاريع تتعلق بدمج المجموعات المسلحة في ليبيا على نطاق واسع.
ومقابل نشاط موسكو الحثيث لترسيخ وجودها العسكري في ليبيا، عادت الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة لتفعيل برنامج مضاد يسعى لنزع السلاح ودمج المجموعات المسلحة في ليبيا تحت قيادة عسكرية موحدة.
تفاصيل الخطة الأميركية لدمج المجموعات المسلحة في ليبيا
وكشفت مصادر ليبية حكومية في طرابلس، لـ"العربي الجديد"، أن مسؤولين أميركيين يجرون مشاورات مع أطراف ليبية بشكل كثيف منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي حول مشروع أميركي لنزع السلاح وحل التشكيلات المسلحة وإعادة دمجها في المؤسسات الأمنية والعسكرية.
وأشارت المصادر نفسها إلى أن مسؤولين أميركيين أجروا مشاورات موسعة بين قيادات عسكرية تابعة لحكومة الوحدة الوطنية في غرب البلاد، وقيادة اللواء المتقاعد خليفة حفتر في الشرق.
يقضي التصنيف بوضع التشكيلات المسلحة في ثلاث مجموعات، على أن يجرى حل المتورطة في جرائم واسعة
وحول مضمون هذا المشروع الأميركي، توافقت معلومات المصادر على أنه يتضمن رؤية خاصة في عدم معاملة التشكيلات المسلحة بمنظور واحد، ووجوب تصنيفها بناء على معايير سابقة توصل إليها الجانب الأميركي مع حكومة الوفاق الوطني عام 2020.
ويقضي هذا التصنيف بوضع المجموعات المسلحة في ليبيا في ثلاث مجموعات: مجموعة تلقت تدريباً نظامياً ورُمز لها باللون الأخضر، ومجموعة أبدت استعدادها لتلقي تدريب نظامي، ورُمز لها باللون البرتقالي، ومجموعة متورطة في جرائم واسعة ولا يمكن استيعابها في التدريب النظامي، ورُمز لها باللون الأحمر.
وفيما يتوجب حل المجموعة الأخيرة، تُدمج المجموعتان الأوليان في المؤسستين الأمنية والعسكرية تحت قيادة مدنية موحدة.
والأربعاء الماضي، أعلن وزير الداخلية في حكومة الوحدة الوطنية، عماد الطرابلسي، عن انتهاء حكومته من مشاورات مع قادة التشكيلات المسلحة، تقضي بإخلاء هذه التشكيلات مواقعها في الطرقات وداخل الأحياء في العاصمة طرابلس، ورجوعها إلى مقارها وثكناتها العسكرية.
وأكد خلال مؤتمر صحافي، أن تنفيذ هذا الاتفاق سيجري قبل نهاية رمضان المقبل (يبدأ في 10 مارس/آذار المقبل) كحد أقصى، مشيراً إلى أن فرق الشرطة والنجدة والبحث الجنائي التابعة لوزارة الداخلية ستكون البديل في مواقع التشكيلات المسلحة عند انسحابها.
وأكد الطرابلسي عزم تطبيق نموذج إخلاء العاصمة من التشكيلات المسلحة على كامل المناطق والمدن الليبية، مشدداً على أهمية التفاف الليبيين حول خطة الحكومة ودعمها لضمان نجاحها.
وفيما يبدو مؤشراً على المضي في الخطة الحكومية الرامية إلى إخلاء التشكيلات المسلحة من مواقعها، أعلن جهاز الردع في 8 فبراير/شباط الحالي سحب كافة عناصره من مطار امعيتيقة والميناء البحري في طرابلس، مشيراً إلى أن خطوته هذه جاءت تنفيذاً لقرارات حكومة الوحدة الوطنية بشأن تكليف الأجهزة الأمنية فقط بالتواجد في المناطق الجوية والبحرية.
وأثنى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، على أفراد التشكيلات المسلحة، ووصفهم بأنهم "أبناؤنا وفلذات أكباد الليبيين الذين دافعوا عن أعراضهم ومقدساتهم في الشوارع".
وأضاف "من يقول إنهم قوات منفلتة فهو متأثر بأفعالهم في السابق التي تجاوزتها كل التشكيلات". وأكد الدبيبة، خلال لقاء معه على منصة بودكسات نهاية يناير/كانون الثاني الماضي، أن هذه التشكيلات المسلحة "ليست كلها مليشيات، والبعض منها لا يمكن التفرقة بينها وبين من يتخرجون من الكليات النظامية، وهم يحترمون تعليمات رئاسة الأركان ووزارة الدفاع".
تشكيلات متعددة في طرابلس والشرق
وتنتشر أعداد من التشكيلات المسلحة على طرابلس تحت مسميات عسكرية تتبع الحكومة والمجلس الرئاسي، أبرزها جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، وجهاز دعم الاستقرار، وجهاز الأمن العام، واللواء 444 مشاة.
كما تنتشر أعداد أخرى من التشكيلات المسلحة مختلفة الانتماءات في مدن مصراتة والزنتان والزاوية، وهي أبرز ثلاث مدن في الغرب الليبي لها ثقل سياسي وعسكري.
وفي الشرق والجنوب الليبي، تسيطر مليشيات عديدة تعمل بمسميات عسكرية تحت قيادة يتزعمها خليفة حفتر الذي يتحرك تحت مسمى "القائد العام" للجيش، من دون أي تبعية للمجلس الرئاسي، أو وزارة الدفاع في حكومتي البلاد، حكومة الوحدة الوطنية وحكومة مجلس النواب.
أجرى مسؤولو السفارة الأميركية في طرابلس أربعة لقاءات مع حفتر منذ أكتوبر
ومقابل لقاءات متتالية أجراها نائب وزير الدفاع الروسي، يونس بك يفكيروف، منذ أغسطس/آب وحتى يناير الماضيين في بنغازي، والتقى حفتر خلالها، أجرى مسؤولو السفارة الأميركية في طرابلس أربعة لقاءات مماثلة مع حفتر منذ أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من بينها لقاء شارك فيه مساعد وزير الخارجية الأميركي جوشوا هاريس، في يناير الماضي، ناقش سبل توحيد المؤسسة العسكرية وضرورة "تحقيق الوحدة في ظل حكومة منتخبة بقيادة مدنية يمكنها حماية سيادة ليبيا والمساهمة في الاستقرار الإقليمي".
وفي الوقت الذي أشارت فيه العديد من التقارير إلى أن الغرض من زيارات يفكيروف إلى بنغازي بناء فيلق روسي أفريقي بديل عن مجموعات "فاغنر" سيتخذ من ليبيا قاعدة لتعزيز الوجود الروسي في العمق الأفريقي، وسط سعي حفتر لتوقيع اتفاق دفاع مشترك مع الجانب الروسي للحصول على معدات وآليات عسكرية روسية حديثة، حملت لقاءات الجانب الأميركي مع قيادة حفتر عنوان توحيد المؤسسة العسكرية.
ويستعد حفتر لإجراء عرض عسكري كبير الشهر المقبل في القواعد العسكرية بمدينة سرت وسط شمالي البلاد، والجفرة وسط الجنوب، والتي تعد من أهم المواقع العسكرية التي تتواجد فيها موسكو عبر مرتزقة "فاغنر".
تنافس أميركي روسي في ليبيا
ورأى أستاذ العلوم السياسية الليبي عادل شنينة، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن موسكو تقدمت على المشروع الأميركي بمراحل في المسارين السياسي والعسكري، فلم تعد تخفي علاقتها العسكرية مع حفتر، وزيارات يفكيروف المعلنة دليل على ذلك، كما افتتحت روسيا بشكل رسمي سفارتها في طرابلس الخميس الماضي.
شنينة: مشروع واشنطن لدمج المجموعات المسلحة في ليبيا أمامه طريق طويل وتنتظره عقبات عديدة
ووفق شنينة، فإن مشروع واشنطن لدمج المجموعات المسلحة في ليبيا أمامه طريق طويل وتنتظره عقبات عديدة أيضاً، أولها ضعف حكومة الدبيبة وعدم قدرتها على فرض هكذا مشروع على الأرض، حتى وإن نجحت فيه في طرابلس.
وأضاف: "قد ينشط الدبيبة لمثل هذه المشاريع ويرتبط بها ليستفيد من دعم أصحابها، وهنا نتحدث عن واشنطن بثقلها الكبير، لكنه لا يملك القدرة الكافية لإصلاح القطاع الأمني والسيطرة عليه، وتوفير البدائل للمسلحين، خصوصاً المشاريع الاقتصادية ليتركوا السلاح".
واعتبر أن "الهدف الرئيسي للمشروع الأميركي ليس تنظيم المجموعات المسلحة في الغرب بقدر ما هو سعي إلى بناء نواة عسكرية نظامية يمكن معها إجبار حفتر على القبول بتوحيد المؤسسة العسكرية، وهو الذي يتعلل بعدم انضباط السلاح داخل مجموعات الغرب وأنها ليست نظامية".
وأشار إلى أن هذا المسار يتوازى مع مسار آخر في الشأن السياسي، من خلال الوقوف وراء خطوة البعثة الأممية الرامية إلى جمع القادة الأساسيين في ليبيا لمناقشة المعيقات التي تواجه الانتخابات.
وبحسب شنينة، فإن "المسارين متشابكان، والهدف هو وضع قرار السلاح تحت سيطرة هياكل عسكرية وسياسية موحدة، وهذا يتطلب جهوداً مضاعفة لإقناع المتنافسين الحاليين بالقبول بالانتخابات لتوحيد السلطة أو بأي صورة أخرى تندمج فيها الهياكل السياسية الحالية، أما الهدف في عمقه البعيد فهو سحب البساط من تحت أقدام روسيا التي تحاول الانغراس في ليبيا من بوابة حفتر".
في المقابل، رأى أستاذ العلاقات الدولية المبروك القلعي أن واشنطن تملك العديد من أوراق الضغط على حفتر، ليس أقلها أنه يحمل جنسيتها ويواجه دعاوى قضائية مرفوعة أمام محاكمها، بالإضافة إلى أن مشاريع كبرى تتصل بقطبين كموسكو وواشنطن لابد أن يكون لهما ارتباط بالمحيط الإقليمي والدولي وتداعياتها عليهما.
وأشار القلعي، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن واشنطن لديها شركاء أوروبيون يعارضون سياسات روسيا في ليبيا وأفريقيا، مصيفاً "لا بد من النظر إلى الحسابات الإقليمية والدولية والأحداث في المنطقة التي تجبر موسكو على الوعي بأنها ليست اللاعب الوحيد، وبالتالي لن تعرّض مصالحها وخططها لخطر مواجهة جديدة كما يحدث في أوكرانيا".
ولفت إلى أن واشنطن تسعى إلى أن تكون قريبة من حفتر وبذلك يمكنها عرقلة التوغل الروسي نسبياً، خصوصاً أن المشروع الروسي أيضاً لا يزال في طور تشكّله الأولي ويحتاج لمراحل طويلة لتحقيقه.
وفي نهاية يناير الماضي، كشفت صحيفة "ذا تايمز" البريطانية عن قلق أوروبي حيال خطط روسيا لبناء قاعدة نووية في ليبيا عبر نشر غواصات نووية في ميناء بحري شرقي ليبيا، مشيرة إلى موانئ ليبية أخرى من المحتمل أن تستخدمها روسيا، مثل موانئ سرت ورأس لانوف، وسط شمالي البلاد.
وعلّق القلعي على ذلك بالقول "لا أعتقد أن مثل هذا القلق سيوازيه ترقب أوروبي - أميركي فقط، بل سنشهد مواقف أكثر علنية وصراحة، وهو اتجاه لن يكون في صالح ليبيا إذا تعددت فيها أقطاب التنافس والصراع الدولي".