اقتحم "مشروع 2025" الذي أعدّته مؤسسة هيريتاج البحثية المحافظة الأميركية في عام 2022، الحملة الانتخابية الثالثة لدونالد ترامب، هذا العام، وربما ساهم بفوزه بولاية ثانية، إلى جانب العديد من المبادرات والخطط الانتخابية لترامب ومساعديه، والتي أثبتت مع فوزه الساحق، نجاحها، بمواجهة حملة الديمقراطيين الباهتة. ورغم التهويل الديمقراطي الهائل بالمشروع، على اعتباره خريطة طريق لـ"العودة بالولايات المتحدة عقوداً إلى الوراء"، إلا أن المشروع المستوحى من نسخة سابقة في عهد الرئيس رونالد ريغان، يعكس في طيّاته رؤية محافظة جداً للبلاد، مقابل من يصفهم الجمهوريون بـ"الليبراليين" وجماعة اليقظة "woke"، وهو مصطلح لوصم الليبراليين والمنادين بالمساواة المجتمعية، وهو صراع يشكّل صلب الخلاف بين أيديولوجيتين ورؤيتين لمستقبل أميركا، ويتبناه ترامب حَرْفياً.
خطاب ترامب الانتخابي و"مشروع 2025"
وليس معروفاً إذا ما كان ترامب فعلاً معجباً بـ"مشروع 2025" على أساس أيديولوجي، لكنه مؤمن من دون شكّ بضرورة تفكيك الحكومة الفيدرالية وإعادة هيكلتها، ولو على نسق شديد المحافظة، وقد التصق خطابه الانتخابي، بعناوين المشروع، التي تؤشر إلى أن "ثورة محافظة" مضادة هي قيد التحضير، تماماً كمراحل سابقة محافظة من الحياة السياسية الأميركية، صعدت فيها حركة الشاي المحافظة، في العقد الأول من القرن الحالي، أو المحافظون الجدد، في إطار استمرار تدفق الأيديولوجية المحافظة بأنماط عدة في الحياة السياسية الأميركية، وتكيّفها مع "المخاطر". وأمّا ما يخص "مشروع 2025"، الذي صيغ لمواجهة الحركة الليبرالية والتقدمية في البلاد، فهو خريطة طريق لمزيد من الانكفاء، للتفرغ لـ"أعداء الداخل"، والصين. ولذلك فإن الإجهاض، والمهاجرين، والموظفين الحكوميين، والإعلام الليبرالي، من بين "الأعداء" الكثر، ما جعل المشروع حركة تطهيرية بامتياز، يتحفز عرّابوه إلى بدء العمل سريعاً، في غضون المائة يوم الأولى من حكم ترامب.
يعتبر المشروع الصين أنها الخطر الأكبر على الحريات والازدهار الأميركي
وأول من أمس الأحد، اختار ترامب براندين كار، رئيساً مقبلاً للجنة الاتصالات الفيدرالية (أف سي سي). وكار هو أحد معدّي "مشروع 2025"، وكان تعهد بإطلاق المعركة مع كبريات شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي في البلاد، والتي يصفها الجمهوريون بأنها "شديدة الليبرالية". ويصف كار "فيسبوك" و"غوغل" و"آبل" و"مايكروسوفت" بأنها شركات "رقابة على المواطنين"، ومحتكرة لأدوات التواصل التي "لا تصل إلى كلّ الناس"، كما أنه يريد مراقبة قنوات التلفزة الأميركية التي يقول الجمهوريون إنها "تقمعهم"، وتحجب أصواتهم لمصلحة الليبراليين. ويرى المدافعون عن هذه النظرية، أن الإعلام الأميركي يخضع لسطوة الليبراليين والـwoke، وأن أصوات أميركا العميقة، والريفية، محجوبة.
وعلى اعتبار أن ترامب هو في الأصل رجل أعمال ثري، أسّس ثروته في البرونكس بمدينة نيويورك، قبل أن يقتحم عالم السياسة، فليس واضحاً مدى ارتباطه بالمشاريع المحافظة قبل عام 2016، إلا أن فريقاً كبيراً من رئاسته الأولى، ساهم في صياغة "مشروع 2025"، بعد خسارة ترامب معركته الرئاسية الثانية في 2020 لصالح جو بايدن.
تفكيك الدولة الإدارية
وأبصر المشروع النور، في عام 2022، لكنه خرج إلى العلن في إبريل/نيسان 2023، حيث تعهد معدّوه بـ"تفكيك الدولة الإدارية"، من خلال تجهيز الطاقم والسياسات، التي قد تخدم بصفتها خريطة طريق للرئيس المحافظ المقبل، أياً كان. وقال المسؤولون السابقون في إدارة ترامب بين 2017 و20 يناير/كانون الثاني 2021، التاريخ الرسمي لانتهاء ولاية ترامب الأولى، إنهم يريدون من خلال المشروع، تفادي الأخطاء التي ارتكبت خلال هذه الولاية، عبر التأكد أن الرئيس المحافظ المقبل، سيكون مجهّزاً بشكل جيد، بـ"الكفاءات" و"الخطط"، للعمل سريعاً على تنفيذ أجندة حملته. واعتبر بول دانس، مدير "مشروع 2025"، في حديث لوكالة أسوشييتد برس، العام الماضي، أنه هناك "دفع قوي للعمل سريعاً".
وأعدّت المشروع مؤسسة هيريتاج المحافظة، والمقربة من ترامب، ومقرها في واشنطن، وفكرته تلامس نسخة سابقة تعود إلى عهد ريغان، الرئيس الـ40 للولايات المتحدة (1981 – 1989)، بعنوان "تفويض للقيادة"، والتي يقال إنها كانت رؤية شعبية داخل البيت الأبيض في عهده، حتى إنه بحسب "أسوشييتد برس"، كانت نسخٌ منها موزعة على المكاتب في البيت الأبيض، باعتبارها "دليل عمل" للرئاسة.
وساهمت 100 مجموعة محافظة، في إعداد المشروع، عدد منها يضم الكثير من الموظفين السابقين في إدارة ترامب، ومن بينهم راسل فوت، أحد المهندسين الأساسيين للمشروع، والداعي إلى "ترويض حكومة الووك"، والحكومات الفيدرالية التي "تستخدم سلاحاً في وجه الخصوم". ويعدّ فوت، من أبرز مستشاري ترامب الذين لديهم إلمام قوي بكيفية العمل السياسي في واشنطن، حيث شغل لسنوات طويلة مستشاراً لسياسيين محافظين في الكونغرس، ومستشاراً بعهد ترامب في البيت الأبيض، وكان اسمه مطروحاً لتولي منصب كبير موظفي البيت الأبيض، لكن ترامب اختار رئيسة حملته سوزي وايلز للمنصب.
يوصي المشروع بدمج وكالات فيدرالية واستبدال موظفين حكوميين بآخرين أو نقلهم إلى وظائف حكومية يسهل طردهم منها
ويتألف "مشروع 2025"، من 920 صفحة، ويعتبر ملخصاً للطموحات اليمينية المتطرفة، وتشمل أفكاره، طرد آلاف الموظفين المدنيين واستبدالهم بموظفين مخلصين لترامب، ولا سيما للانقلاب على موافقة "إدارة الغذاء والدواء" على عقاقير مستخدمة في الإجهاض. لكن ذلك ليس سوى عيّنة بسيطة مما يشتمل عليه المشروع الذي هوّل منه الديمقراطيون خلال حملة كامالا هاريس، وربطوه بأجندة ترامب المتطرفة، فيما نأى الأخير بنفسه عنه. ويقترح المشروع، تعيين المزيد من المحافظين في وزارة العدل، وتعيين موظفين حكوميين بسلطات إنفاذ القانون لمعالجة أزمة تدفق المهاجرين غير النظاميين، فضلاً عن تفكيك الإدارات الخاصة بالتربية والتعليم وإعادة هيكلتها.
ويقوم أحد أهم اقتراحات المشروع، على تسهيل تأهيل الحكومة بالمؤيدين لترامب، عبر نقل حوالي 50 ألف موظف إلى وظائف أخرى بالإمكان طردهم منها بطريقة أسهل، وهو إعادة إحياء لمشروع "الجدول أف" التي حاول ترامب تنفيذها قبل مغادرته السلطة في 2020، وهي اليوم مركزية في الرؤية المحافظة لتفكيك بيروقراطية "الدولة العميقة" والتي يلقون عليها اللوم في أنها عرقلت تنفيذ أجندة ترامب المحافظة في ولايته الأولى.
ويعد "مشروع 2025"، غير مكتمل بعد، إذ ينتظر صدور كتيب بعنوان "قواعد لـ180 يوماً"، يحوي على إجراءات بإمكان الرئيس المحافظ تبنيها منذ اليوم الأول لحكمه. وأكد كيفن روبرتس، رئيس "هيريتاج"، سابقاً، أنه "لن يستسلم"، قبل تنفيذ الأجندة، علماً أنه كان ينظر إليه بوصفه حليفاً وداعماً لمنافس ترامب في تمهيديات الحزب الجمهوري للرئاسيات، حاكم ولاية فلوريدا، رون ديسانتيس.
وفي الواقع، لم يبدأ الحديث جدياً عن "المشروع 2025"، رغم ما كان يُضمر أصحابه، إلا بعد المناظرة بين ترامب وبايدن (قبل انسحاب الأخير من السباق)، في يونيو/حزيران الماضي، والتي أخفق فيها الرئيس الديمقراطي، حتى إنه كان من المفترض أن يتطرق إلى خطر المشروع، بحسب تقارير عدة، إلا أنه ربما نسي ذلك. حينها، وفق تقرير لـ"أسوشييتد برس"، نشر في 22 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نشرت الممثلة والناشطة تاراجي بي. هنسون، من أصول أفريقية، منشوراً على إكس، كتبت فيه: "المشروع 2025 ليس لعبة. احذورا"، ليتدفق بعدها سيل من المنشورات والفيديوهات على "تيك توك"، تتحدث مباشرة عن المشروع والخطر منه على الحقوق المدنية، والحقوق الإنجابية، وحقوق أخرى بما وصف بأنه "ثورة مضادة"، على ما رأى فيه الليبراليون بأنه عنوان الحملة الانتخابية الحقيقي، وهو ما أكدوا رفضهم له. وبحسب حملة هاريس في ذلك الوقت، فإن البحث على "مشروع 2025" على غوغل، تخطى البحث عن أسماء وعناوين أخرى، مثل المغنية تايلور سويفت التي دعمت الديمقراطيين بشدة في ذلك الوقت.
من جهتهم، شعر المحافظون بأنه يجب "تخفيض الصوت" حول المشروع، لما يمكن أن تكون له من عواقب على حملة ترامب، ما حدا بالأخير إلى التبرؤ منه، رغم قرب كل معدّيه من دائرة الرئيس الجمهوري الذي أعيد انتخابه في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي. لكن الأجندة الانتخابية التي ظهّرها ترامب، كان أعدّها راسل فوت، وهو مساهم في المشروع.
ويقوم "مشروع 2025"، على 4 أعمدة: دليل سياسات للإدارة المقبلة، قاعدة بيانات شبيهة بموقع "لينكد إن" للتوظيف في الإدارة المقبلة، دليل تدريب لما سمي "أكاديمية الإدارة الرئاسية"، وقواعد عمل للأيام الـ180 الأولى في البيت الأبيض. وأحد صائغي المشروع أيضاً، هو بول دانز، وسبنسر كريتيان، اللذان عملا مساعدين سابقين لترامب. لكن دانز قال في يوليو الماضي، إنه استقال من مهمته رئيساً للمشروع، وغادر "هيريتاج".
ويقوم الانتقاد الأكبر على المشروع، من قبل الديمقراطيين، على ركنه الأول، المؤلف من حوالي 900 صفحة، بعنوان "تفويض للقيادة في 2025: الحلم المحافظ"، والمستلهم من "تفويض القيادة" في عهد ريغان. وتلامس التوصيات في هذا التفويض، كل ركن تقريباً من السلطة التنفيذية (الحكومة الفيدرالية)، من المكتب التنفيذي للرئيس، إلى وزارة الأمن الداخلي، إلى مصرف الاستيراد والتوريد. وبحسب موقع "سي بي أس" الإخباري، فإن "هيريتاج" كانت أيضاً أعدّت في 2015 "تفويضاً للقيادة" قبل ولاية ترامب الأولى، وهو في العامين الأولين منها، نفّذ 64% من سياساتها آنذاك، ومنها الانسحاب من اتفاق باريس للمناخ، وزيادة الإنفاق العسكري، وزيادة التنقيب عن النفط. وذكرت "سي بي أس"، في 8 نوفمبر الحالي، أن مؤسسة "هيريتاج" قدّمت نسخة محدثة عن المشروع السابق في 2020، إلى كبير موظفي البيت الأبيض حينها، مارك ميدوز، قبل مغادرة ترامب البيت الأبيض.
وساهم في المشروع الجديد، أيضاً، روجر سيفيرينو، الذي كان مديراً في مكتب حقوق الإنسان في إدارة الخدمات الصحية والإنسانية في عهد ترامب، وجون ماكنتي، المدير السابق لمكتب الموظفين الرئاسيين في عهد ترامب، وهو أصبح مستشاراً كبيراً في "هيريتاج". وبحسب تقارير عدة، فإن المرشحين لتسجيل أسمائهم في بيانات "الموظفين الرئاسيين" للتوظيف، عليهم أن يعلنوا موافقتهم أو عدم موافقتهم على بيانات عدة، من بينها مثلاً "إن للحياة حقّاً في الحماية القانونية بأمور الولادة حتى الموت الطبيعي".
يدعو المشروع إدارة الغذاء والدواء إلى التراجع عن موافقتها على عقاقير للإجهاض، وفرض قيود أخرى على الإجهاض
ويحتوي "المشروع 2025"، على 270 اقتراحاً على الأقل، للرئيس المحافظ المقبل، تعزّز جميعها سلطة الرئاسة على حساب الحكومة. وتتربع على عرش هذه الاقتراحات: تقليل التدخل الفيدرالي في قطاع التربية، تأمين الحدود بعدد أكبر من قوات إنفاذ القانون وتعزيز قوانين الهجرة، وتفعيل عمليات الترحيل الجماعية للمهاجرين، وبناء جدار حدودي، و"اتخاذ موقف حازم وأكثر صرامة لمحاربة كارتيلات المخدرات". ويدعو المشروع إدارة الغذاء والدواء إلى التراجع عن موافقتها على عقاقير للإجهاض، وفرض قيود أخرى على الإجهاض. ومن المقترحات أيضاً، استهداف منهجي للموظفين الفيدراليين، حيث مثلاً يوصي المشروع بتفكيك إدارة الأمن الوطني، التي أنشئت في 2002، مع دمج وكالاتها في وكالات أخرى. وفي الاقتصاد، يقترح المشروع سياسات ضريبية تستثني الشركات والأثرياء، وأكدت دراسة لمركز التقدم الأميركي، وهو مؤسسة بحثية ليبرالية، أن السياسة الضريبية لمشروع 2025، سوف تزيد الأعباء الضريبية على الطبقة الوسطى.
وفي السياسة الخارجية، يحمل المشروع رؤية صقوره تجاه الصين، على اعتبارها "الخطر الأكثر أهمية على الحريات الأميركية، والازدهار الأميركي". كما يدعو المشروع إلى خفض المساعدات الأميركية "الإنسانية" حول العالم، وتعزيز الإنتاج النووي.