كشفت مصادر قضائية في وزارة العدل المصرية أن هيئة الرقابة الإدارية تلقت تعليمات من دائرة الرئيس عبد الفتاح السيسي بإعداد تقارير رقابية شهرية عن مجموعات من القضاة وأعضاء مختلف الهيئات القضائية. وتتضمن التفتيش على أملاكهم العقارية من أراضٍ ومبانٍ، خاصة في محافظات الدلتا والصعيد والإسكندرية، وإبلاغ مكتب السيسي بنتائج عمليات التفتيش، فضلاً عن إعداد تقارير عن الأوضاع المالية لجميع القضاة على مستوى الجمهورية.
يأتي ذلك بعد الضربات التي وجهها السيسي للقضاة خلال السنوات الثلاث الماضية، ونتج عنها تخفيض امتيازاتهم المالية، وزيادة المستحقات المطلوب منهم أداؤها من الضرائب بأثر مباشر ورجعي، في ظل تضمن القرار الحالي لوزير المالية محمد معيط ضرورة احتساب الضريبة بتلك النسبة المرتفعة على القضاة بأثر رجعي يمتد حتى يونيو/ حزيران 2018، موعد صدور القانون الخاص بالشرائح الجديدة رقم 97 لسنة 2018، بالتوازي مع تقليل فرص حصولهم على أموال من الجهات الحكومية والتعليمية التي ينتدبون إليها.
كثفت الرقابة الإدارية تحرياتها عن علاقات القضاة الشخصية في أماكن العمل الحكومية التي ينتدبون فيها
وأضافت المصادر، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الرقابة الإدارية بدأت إعداد تقاريرها عن مجموعات مختلفة من قضاة مجلس الدولة ومحكمة النقض ومحاكم الاستئناف، وفي مرحلة ثانية عن أعضاء هيئة قضايا الدولة والنيابة الإدارية، رغم ارتباط عمل الأخيرة أصلاً بالرقابة الإدارية في مكافحة الفساد الحكومي. وأوضحت أن الرقابة حددت أولى المجموعات بناء على التحريات الخاصة عن أملاك القضاة غير المسجلة في الشهر العقاري، أو المسجلة بأسماء ذويهم، وكذلك تقارير البنك المركزي عن أموالهم السائلة وأموال ذويهم بعد عام 2018. كما كثفت تحرياتها أيضاً عن علاقات القضاة الشخصية في أماكن العمل الحكومية التي ينتدبون فيها، خاصة بدواوين الوزارات والمحافظات.
وذكرت المصادر أن هذه الحملة الرقابية الجديدة على القضاة تأتي على خلفية اكتشاف وقائع عديدة من المخالفات المالية الخاصة بهم خلال العام 2020، منها وقائع رشوة واستيلاء على أراضي الدولة وتوسع في مخالفات البناء، وغيرها من وقائع مرتبطة أساساً بالثروات العقارية. وقد تم اكتشافها خلال الحملة الكبرى التي شنتها الأجهزة السيادية، بمساندة من الجيش والشرطة، على المخالفين لشروط البناء والمعتدين على أراضي الدولة الصيف الماضي. وكشفت المصادر أن الرقابة الإدارية أحالت إلى إدارات التفتيش بوزارة العدل والنيابة العامة ومجلس الدولة أكثر من 50 حالة مخالفة خلال عام 2020، وصدرت أحكام تأديبية ضد 21 من القضاة وأعضاء الهيئات القضائية بخصوصها، وما زال الباقي قيد التحقيق. وتوقعت أن تتسبب الحملة الجديدة في إحالة المزيد من القضاة للمحاكمات التي تجرى في سرية تامة، ويصدق رئيس الجمهورية على قراراتها العقابية.
وذكرت المصادر أن هناك سبباً آخر للحملة الرقابية الجديدة، يتمثل في غضب السيسي من عدم استجابة القضاة للقواعد المالية الجديدة التي وضعها لهم في عدة قوانين، جراء المطالبات الضخمة من مصلحة الضرائب. كما رفعوا أكثر من 10 دعاوى أمام المحكمة الدستورية العليا، يطالبون فيها ببطلان حرمانهم من الاستفادة من قانون المعاشات الجديد، الذي أصدره السيسي عام 2018، وتضمن زيادة كبيرة في المعاشات الخاصة برئيس مجلس الوزراء ونوابه والوزراء ونوابهم والمحافظين ونوابهم ورئيس مجلس النواب، حيث يرى القضاة الكبار أنهم يستحقون الحصول على تلك الزيادات بسبب تساويهم في الدرجة المالية مع الوزراء ونواب الوزراء.
أحد أسباب الحملة الرقابية يتمثل في غضب السيسي من عدم استجابة القضاة للقواعد المالية الجديدة التي وضعها لهم
ولم تتوقف محاولات القضاة، خاصة في محكمة النقض، للاستفادة من هذا القانون، رغم إصدار المحكمة الدستورية العليا حكماً، في يناير/ كانون الثاني الماضي، ملزماً للكافة، بعدم استفادة القضاة من قانون المعاشات الجديد. واستمروا في رفع الدعاوى أمام دائرة طلبات الأعضاء بمحكمة استئناف القاهرة، والتي اعتبرت أن هناك شبهة عدم دستورية في القانون الذي أصدره السيسي، وأحالته للمحكمة الدستورية. ورغم السيطرة المطلقة على القضاء، والمحكمة الدستورية، منذ إصدار قانون تعيين رؤساء الهيئات القضائية بإنهاء العمل بقاعدة الأقدمية، ثم تجاوزها في المحكمة الدستورية بعد التعديل الدستوري في إبريل/ نيسان 2019، إلا أن دائرة السيسي تقلق من محاولات القضاة تأمين امتيازات مالية لهم على حساب الدولة. ولا سيما أنهم اعتادوا إصدار قرارات داخلية في هيئاتهم بأحقية أعضائها بتقاضي آلاف الجنيهات الإضافية، في صورة بدلات وحوافز مستحقة لهم، أسوة بنظرائهم في هيئات أخرى، الأمر الذي سيكلف الدولة عشرات الملايين من الجنيهات في الميزانية القادمة لكل هيئة.
وبدأت هذه الأزمة القانونية حول المعاشات بإصدار مجلس الدولة، منتصف العام الماضي، فتوى تلزم الدولة بصرف المعاشات بالزيادات الجديدة لكل من القضاة ورؤساء الهيئات الحكومية ذات الطبيعة الخاصة، والقيادات الأكاديمية، باعتبارهم معينين على درجة الوزير أو نائب الوزير. وبموجب قانون السلطة القضائية، خاصة، يكون الرؤساء بالاستئناف ونواب رؤساء الهيئات على درجة نائب وزير، ورؤساء الهيئات على درجة وزير، وذلك بالمخالفة للنص القانوني الصريح الذي يقرن صرف المعاشات بالزيادة الجديدة المقررة بأن يتولى المسؤول منصبه فعلياً، وليس منصباً في حكم أحد المناصب المحددة.
ورغم رفض وزارة العدل تنفيذ تلك الفتوى، إلا أنها لم تقدم على استشارة المحكمة الدستورية في المسألة، إلا بعد صدور حكم عسكري من لجنة الشؤون القانونية للضباط التابعة لوزارة الدفاع، كان بمثابة إنقاذ للدولة من دعاوى قضائية عديدة، كان القضاة يهددون برفعها لتنفيذ الفتوى. وقد رفضت اللجنة العسكرية تطبيق الفتوى على أحد القضاة العسكريين، ما دفع الوزارة لطلب تفسير النص القانوني من المحكمة الدستورية لإنقاذ الخزانة العامة للدولة من نزيف لم يكن ليتوقف. وبعد صدور حكم الدستورية لصالح الدولة، تصاعد انتقاد القضاة لسياسة النظام في التضييق عليهم، وحرمانهم من فرص الحصول على مزايا عديدة، لا سيما في ظل استمرار أزمة زيادة ضريبة الدخل المقتطعة من السواد الأعظم من القضاة إلى 22.5 في المائة من إجمالي الدخل، وليس فقط الراتب الأساسي.
وسبق لمصدر قضائي رفيع المستوى في محكمة استئناف القاهرة أن قال، لـ"العربي الجديد"، إن تناقص المزايا المالية الخاصة بالقضاة في عهد السيسي، ومحاصرة تطلعاتهم لزيادتها بصفة مستمرة، جعلت مئات القضاة، خاصة من الشباب، يقدمون استقالاتهم خلال العام الماضي لشعورهم بعدم وجود مزايا تستحق تحمل العديد من المشكلات الأخرى، مثل التوجيه في القرارات والأحكام والتدخل في العمل، والضغط لزيادة الإنتاج الكمي للأحكام، خاصة في المحاكم المدنية والأسرية، بحجة تحقيق العدالة الناجزة، فضلاً عن تدخل العديد من الجهات في عمل القضاة، بدعوى مراقبة حجم إنجاز أعمالهم، مثل الرقابة الإدارية التي سمح لها وزير العدل السابق حسام عبد الرحيم بالتوغل في القضاء.
وكانت مجموعات من القضاة، خاصة بمجلس الدولة، قد فشلت في حشد نواب البرلمان السابق، وبعض قيادات الوزارات المعنية وعلى رأسها وزارة المالية، لإعادة تنظيم شرائح الضريبة على الدخل، ليتم تخفيض النسبة المرتفعة التي تحسم من دخول الغالبية العظمى من القضاة حاليا بواقع 22.5 في المائة إلى نسبة لا تزيد على 15 في المائة من القضاة، الذين يحصلون على أعلى الدخول في الهيئات المختلفة. وفشلت كل محاولات القضاة في إقناع وزارة المالية وأجهزة السلطة بعدم خضوع دخول القضاة ككل للضريبة، وتطبيقها فقط على الأجر الأساسي كما كان يحدث من قبل.