تحمل تصريحات وزيري الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو ونظيره المصري سامح شكري، من القاهرة، أول من أمس السبت، تأكيداً متبادلاً حول بدء مرحلة جديدة من العلاقات بين مصر وتركيا، في ظل استمرار مسار التقارب بين البلدين. غير أن مصدراً مطلعاً على سير المفاوضات المصرية - التركية يرجح "ألا تُستعاد العلاقات الدبلوماسية بين البلدين خلال الأيام أو الأسابيع القليلة المقبلة، بسبب بعض المسائل المعلّقة، مثل ملف المعارضين من الطرفين الذين يحظون بنوع من التعاطف، على أقل تقدير، المتبادل من كل طرف، بالإضافة إلى ملفات أخرى تبدو أكثر أهمية لهما، ويصعب حسمها سريعاً".
ويؤكد المصدر أن هذه الملفات "يجب ألا تعيق مصالح مصر العليا في استعادة العلاقات مع تركيا، خصوصاً في ظل تعثر العلاقات المصرية مع أطراف إقليمية أخرى، مثل ليبيا وإثيوبيا والسودان". ويرى المصدر في هذا السياق أن "لغة العقل والمنطق والمصلحة تحتم على مصر ألا تخسر تركيا باعتبارها الدولة المفتاح في ملفات إقليمية مهمة".
وكان جاووش أوغلو قد أجرى، أول من أمس، زيارة رسمية إلى القاهرة، هي الأولى لوزير خارجية تركيا إلى العاصمة المصرية منذ إطاحة الرئيس المصري السابق الراحل محمد مرسي في 2013. والتقى الوزير التركي نظيره المصري، وأكد الطرفان وجود إرادة سياسية لتحسين العلاقات. وقال جاووش أوغلو إن البلدين أظهرا إرادة لتعزيز العلاقات في مجالات عدة، مضيفاً أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ونظيره المصري عبد الفتاح السيسي قد يعقدان لقاءً عقب الانتخابات المقبلة في تركيا (منتصف مايو/أيار). من جهته، أعلن شكري، الذي سبق له أن زار تركيا، في فبراير/شباط الماضي، لإظهار التضامن الرسمي المصري بعد الزلزال، أن المشاورات لإعادة السفراء ستجرى في الوقت الملائم.
تركيا ومصر: مشوار طويل لحلّ الخلافات
وحول مضامين الزيارة، يقول المساعد السابق لوزير الخارجية المصري، السفير رخا أحمد حسن، في تصريحات لـ"العربي الجديد": "كان هناك مشوار طويل من بحث المسائل الخلافية بين البلدين، والتي كانت تعكر صفو العلاقات السياسية، وتعيق الطريق أمام عودة العلاقات بين الطرفين. وهذه المعوقات جرى بحثها على مستوى مجلس النواب وعلى مستوى وزيري الخارجية، وفي أثناء وجود وزير الخارجية المصري سامح شكري في أنقرة لتقديم المساعدات للجانب التركي بعد وقوع الزلزال، وأيضاً لا نغفل اللقاء بين الرئيسين السيسي وأردوغان على هامش فعاليات كأس العالم في قطر" أواخر العام الماضي.
من المتوقع أن يكون الملف الليبي من الملفات المهمة التي ستحظى بمساحة كبيرة في المباحثات
ويضيف عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية أن "وصول الزيارات إلى مستوى وزيري الخارجية يشير إلى بقاء أمور خلافية يمكن التفاهم عليها، ولذلك يمكن أن نتوقع خطوة كبيرة متمثلة في عودة السفراء، والإعداد لزيارات أخرى مقبلة، كما أنه من غير المستبعد، وقد جرت الإشارة إلى إمكانية تبادل الزيارات على مستوى أعلى من وزراء الخارجية".
ويؤكد الدبلوماسي المصري السابق أن "للطرفين مصلحة في التعاون المشترك للمساهمة في حل المشاكل الاقتصادية، وقد نشهد طفرة في شكل العلاقات بين الدولتين، وقد نشهد أيضاً تشاوراً حول التوسع والزيادة في حجم التبادل التجاري والاستثمارات بين البلدين، وفتح باب الاستثمار أمام تركيا وإمكانية دخولها في مشروعات استثمارية جديدة". كما يتوقع إمكانية "تجديد العمل بالاتفاقية التي كانت بموجبها تمر الشاحنات التركية من الأراضي المصرية إلى دول أخرى، بما يُسهل الانتشار التجاري لتركيا في المنطقة".
ويضيف عضو الجمعية المصرية للأمم المتحدة أنه "قد يكون هناك بعض الإشكاليات بخصوص وجود أفراد من جماعة الإخوان المسلمين في إسطنبول، والاجتماعات التي يعقدونها، على الرغم من أن تركيا أوقفت أي نشاط علني لأفراد الجماعة، لكنهم انتقلوا إلى دولة أخرى".
وفي الملف الليبي، يؤكد حسن أنه "من الملفات المهمة التي ستحظى بمساحة كبيرة في المباحثات، فهو بحاجة إلى الإغلاق بشكل نهائي، ومصر تنظر إليه بخطر شديد، بسبب ما يقوله الجانب المصري من جلب تركيا المرتزقة والعناصر الإرهابيين من منظمات مختلفة، وانتشارهم في هذه المنطقة من دون سيطرة، رغم تأمين مصر جبهتها الغربية بالتعاون مع الجيش الوطني الليبي"، في إشارة إلى قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
حدود التراجع في الملفات العالقة
من جهته، يرى أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية عصام عبد الشافي أن "هناك ضرورة للتأكيد على وجود مجموعة من القضايا الأساسية التي تجمع بين الدولتين، ومجموعة من الملفات التي ترتبط بأزمات، من بينها ملف ترسيم الحدود البحرية، والموقف من جزيرة قبرص، وملف غاز شرق المتوسط وحضور اليونان وإسرائيل في هذا الملف، وأيضاً الملف العراقي، والليبي، والفلسطيني، وملف المعارضة المصرية في تركيا ووسائلها وأدواتها الإعلامية التي كانت محل الاهتمام خلال العامين الماضيين". كما يبرز برأيه على الطاولة "ملف العلاقات الثنائية في المنظور الاقتصادي تحديداً، وهو ملف لم يتأثر كثيراً بتوتر العلاقات السياسية بين الدولتين خلال السنوات الماضية، كما كانت هناك إشارة إلى التعاون في الجوانب العسكرية والأمنية، ومتابعة لتداعيات الزلزال والحرب الروسية الأوكرانية".
وبرأي عبد الشافي، فإنه "يمكن أن نشهد، خلال المرحلة المقبلة، نوعاً من أنواع تعزيز العلاقات في الملفات الثنائية التي لا ترتبط بقضايا كبرى، ويمكن أن تكون هناك عودة للتمثيل الدبلوماسي على مستوى السفراء، ويمكن أيضاً أن يكون هناك تركيز على الملف الاقتصادي بدرجة كبيرة وتطويره".
أما الملف الليبي، برأي أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، فهو "من الملفات الخلافية المهمة، وتركيا يمكن أن تتراجع فيه، فقط إذا حدث تقدم في ملف غاز شرق المتوسط وترسيم الحدود، لأنه ملف شديد الأهمية بالنسبة لها ويأتي في مرحلة أولوية". لكن يعتبر أن هذا الملف "يصطدم بدرجة أساسية بالاتفاقيات التي وقعها النظام المصري مع كل من قبرص وإسرائيل واليونان، خصوصاً أن هناك أزمة وتوتراً بين أنقرة وأثينا".
وكان وزير الخارجية التركي قد كشف أن تركيا طلبت من مصر الانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط، الذي دشنته مصر مع اليونان وقبرص، ويضم عدداً من الدول الإقليمية حالياً، وذلك خلال المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقده السبت مع شكري.
وفي السياق، يقول عبد الشافي إن "الحديث عن لقاءات مباشرة بين أردوغان والسيسي سيكون ملفاً مؤجلاً لما بعد الانتخابات التركية، التي يمكن أن تكون نتيجتها مؤثرة في مسارات العلاقات بين الدولتين، خصوصاً أن هناك إدراكاً في هذه المرحلة أن السنوات العشر الماضية بالنسبة للنظم السياسية كان لها الكثير من التداعيات السلبية على هذه الأطراف، وهناك محاولة لضبط الصراعات في ما بينهم".
عبد الشافي: يمكن أن نشهد خلال المرحلة المقبلة نوعاً من أنواع تعزيز العلاقات في الملفات التي لا ترتبط بقضايا كبرى
لكن الأمر، برأيه، لا يرتبط "بعلاقات ثنائية فقط، أو برغبة تركية في التواصل، أو مدفوعة برغبات إقليمية أخرى، فالإمارات قد تدفع لهذا التقارب في هذه المرحلة، لكنه يواجه بعقبات مهمة، من بينها المتغير الأميركي وكيفية النظر لطبيعة العلاقات بين هذه الأطراف".
ويضيف أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في هذا الصدد أن الولايات المتحدة "قد تكون مستفيدة بدرجة كبيرة من تحسين العلاقات بين مصر وتركيا، باعتبارهما أهم حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، لكن الأمر أيضاً يرتبط بدرجة الاستقلالية في السياسة الخارجية المصرية، وقدرة النظام في مصر على أن يتبنى توجهاً استقلالياً منفرداً في علاقته مع تركيا بعيداً عن الضغوط التي يمكن أن تمارسها بعض الأطراف الإقليمية، سواء كانت الإمارات أو إسرائيل، في هذا الملف".
ويشرح عبد الشافي في هذا السياق أن "تحسين العلاقات بين تركيا ومصر قد يساهم بدرجة كبيرة في تحسن بعض الملفات، مثل فلسطين وسورية والعراق، وعلى درجة بعيدة منها، ملفي ليبيا والصومال، لأن تركيا تمارس دوراً استراتيجياً شديد الأهمية في الصومال، ولا يمكن أن تتراجع عن المكتسبات التي حققتها في هذا الإطار".
من جهته، يقول أستاذ العلاقات الدولية محمد نشطاوي تعليقاً على زيارة جاووش أوغلو إنها جاءت عقب زيارة شكري إلى تركيا، "والتي عملت على إذابة الجليد بين البلدين، بل أكثر من ذلك، فالحكومة المصرية قررت تسريع حركة البواخر المارة من قناة السويس والمتجهة إلى تركيا محملة بالمساعدات". ويرى نشطاوي أن زيارة جاووش أوغلو "مهمة، وجاءت بعد التطبيع الذي عرفته العلاقات بين الرئيسين المصري والتركي، وفتح آفاق للتعاون وتبادل وجهات النظر والعمل على دراسة مختلف القضايا الإقليمية في المنطقة".
ويضيف نشطاوي أن "هذه الزيارة مهمة للجانبين لبحث عدد من القضايا المهمة، خصوصاً العلاقات الثنائية بكل جوانبها، والعمل على تبادل وجهات النظر في ما يتعلق بقضايا إقليمية ودولية". ويرى أن "هناك قضايا مهمة يجب النظر في التعامل معها، مثل الاتفاق السعودي الإيراني الأخير بوساطة صينية، ومضامينه وتداعياته على المنطقة، والقضية الفلسطينية وتداعيات الحكومة الإسرائيلية المتطرفة على الاستقرار في المنطقة وعلى حقوق الشعب الفلسطيني، كذلك البحث في ما يتعلق بترسيم الحدود في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والوجود التركي في ليبيا". ويشدّد على وجوب عدم إغفال العلاقات الثنائية، "وإلى أي حد يمكن أن يكون هناك تطبيع جيّد للعلاقات في ظل مؤاخذة القاهرة تركيا على دعمها منشقين مصريين موجودين على أراضيها، واعتبار القاهرة أن خطابات هؤلاء تشكل عاملًا يسيء إلى العلاقات المصرية التركية".
ويتوقع أستاذ العلاقات الدولية أن "تتمثل الخطوات المستقبلية في الاتفاق على تفاهمات في ما يتعلق بإعادة فتح التمثيليات الدبلوماسية، والعمل على وضع جوانب الخلاف فوق مائدة الحوار، ومنها المياه الإقليمية والحدود البحرية، وعلاقات البلدين مع ليبيا وإلى أي حد يمكن أن تحصل تفاهمات حول هوية الأطراف الليبية التي يمكن أن يجرى دعمها من قبل البلدين، بالإضافة إلى مشكلة المنشقين المصريين في تركيا، والخطوات التي ستُتّبع ضد بعض داعمي جماعة الإخوان المسلمين في تركيا". كما يرى أن "هناك مشاكل عالقة لا بد من التنسيق بينهما حولها، وتتعلق بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، والاتفاق السعودي الإيراني".
ويتابع نشطاوي: "يمكن كذلك أن نتصور إمكانية زيارة الرئيس المصري إلى تركيا، رغم أنه لا يزال هناك عدد كبير من الأتراك غير مقتنعين بجدوى هذا التطبيع، على أن تأخذ زيارة السيسي إلى تركيا مدة من الوقت حتى تتحقق، ويجب ألا ننسى أن صورة الرئيس المصري لا تزال مرتبطة في أذهان الأتراك بمشاهد فضّ اعتصام رابعة العدوية".