أعادت جولة التصعيد المحدودة زمنياً وفي قوتها القتالية، طيلة يوم السبت، فتح الباب أمام مساعٍ دولية لمحاولة التوصل إلى تهدئة بين الاحتلال وبين حركة "حماس" في قطاع غزة. وتهدف هذه المحاولات إلى فتح الطريق أمام تطوير مشاريع تنمية في القطاع، وتسهيلات تخفف من كارثة إنسانية في غزة، تمثلت بالتدخل المصري والدولي لتثبيت اتفاق لوقف فوري لإطلاق النيران، على أمل استمرار المساعي والاتصالات عبر الوسيط الدولي، نيكولاي ملادينوف، والطرف المصري وأطراف عربية ودولية أخرى لتوسيع هوامش الاتفاق.
ومع ذلك، عمقت جولة التصعيد المحدودة من الأزمة الداخلية لرئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، منذ انهيار محاولات التوصل إلى تهدئة وتخفيف الحصار قبل أسبوعين، والتي أعلن عن انهيارها الوسيط القطري، السفير محمد العمادي. وتبع إعلان العمادي مباشرة تصعيد لفظي إسرائيلي وتوعد لحركة "حماس" مما هو قادم في حال استمرار إطلاق الطائرات الورقية الحارقة، أو إطلاق قذائف صاروخية باتجاه إسرائيل.
ويجد نتنياهو، الذي يقدم نفسه للإسرائيليين باعتباره رجل الأمن الأول القادر على مواجهة "حماس"، نفسه مضطراً إلى الأخذ بتعليمات وتوجيهات قيادة الجيش، التي تحذر من خطر الانزلاق نحو مواجهة شاملة في القطاع، مع تأكيدها أنه لا يمكن الذهاب لحرب جديدة لمجرد استمرار ظاهرة الطائرات الورقية الحارقة. ومع ذلك اتضح أن الجيش أعد مسبقاً، منذ أسابيع، "بنك أهداف للحركة سارع إلى استهدافها يوم السبت" لكن الطيران الإسرائيلي امتنع، باعتراف ضابط كبير في سلاح الجو الإسرائيلي، في حديث مع المراسلين العسكريين أمس، عن استهداف نشطاء "حماس" خلال عشرات الغارات التي شنها على القطاع يوم السبت، إلا من تواجد منهم قرب خلايا لإطلاق طائرات ورقية، أو مواقع لإطلاق قذائف وصواريخ باتجاه إسرائيل. وهي خطوة تعكس أيضاً تحسباً إسرائيلياً من رد فعل "حماس" في حال طاولت النيران نشطاء الحركة وقادتها، رغم ثرثرة إسرائيلية باحتمال العودة لسياسة الاغتيالات والتصفيات.
وعكست تصريحات نتنياهو، أمام جلسة الحكومة الأسبوعية أمس الأحد، بأن إسرائيل وجهت إلى "حماس" ضربات قوية هي الأشد منذ عدوان "الجرف الصامد" في العام 2014، مع إشارته بشكل خاص إلى أنها لم توافق على استثناء إطلاق الطائرات الحارقة من اتفاق وقف إطلاق النار، حجم الضغط والحرج الذي تشكله هذه الأداة لنتنياهو في وجه الضغوط الداخلية في الائتلاف الحكومي. وأعلن زعيم "البيت اليهودي" وعضو الكابينت السياسي والأمني، نفتالي بينيت، أنه سيصوت هو وزميلته من الحزب، الوزيرة إيليت شاكيد، ضد اتفاق لا يشمل إلزام "حماس" بوقف إطلاق الطائرات الحارقة، ونزع سلاح المقاومة، مقابل تصريحات مزايدة ضد وزير أمنه، أفيغدور ليبرمان، أطلقها وزير الاستخبارات، يسرائيل كاتس، بأن وزير الأمن لم يُعد حتى الآن خطة لإسقاط سلطة "حماس" وهو اتهام مبطن أيضاً ضد نتنياهو نفسه وليس فقط ضد ليبرمان.
من هنا جاءت تصريحات نتنياهو التي تدعي توجيه ضربة قوية لـ"حماس"، وأن إسرائيل سترد على كل من يستهدفها، لتحمل لهجة المدافع عن نفسه في وجه الانتقادات من داخل الائتلاف الحكومي، وفي الوقت نفسه ضد الاتهامات له من المعارضة، التي تتهمه بالفشل في تحقيق الأمن للإسرائيليين، وعدم الحسم مقابل "حماس". وما يعمق من أزمة نتنياهو، أن الأوضاع السائدة في القطاع، واحتمالات انهيار الأوضاع الإنسانية، زادت من الاهتمام الدولي بما يحدث في غزة، من دون أن يكون بمقدور حكومته التجاوب مع الطروحات المختلفة، بفعل قرارات سابقة للكابينت السياسي والأمني الإسرائيلي، اشترطت الربط بين أي تسوية في القطاع وبين استعادة جثماني الجنديين الإسرائيليين المحتجزين لدى "حماس" منذ عدوان "الجرف الصامد"، إذ رفضت الحركة أي معادلة في هذا السياق لا تقوم على مبدأ الأسرى مقابل الأسرى، وإصرارها على شرط الإفراج عن أسرى صفقة "وفاء الأحرار" (التي تم بموجبها إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2011) وعدم ربط ذلك بمشاريع التنمية للقطاع.
في المقابل، فإن نتنياهو، الذي تمكن هذا العام من التخلص من خطر التوجه لانتخابات جديدة في ظروف غير مريحة له، قد يجد نفسه مضطراً، رغم تحذيرات إسرائيلية بأن أي تصعيد سيؤدي بالضرورة إلى حرب شاملة، للهروب إلى الأمام نحو تصعيد عسكري غير محدود، مع تزايد الضغوط الداخلية عليه لوقف ما يدعيه وزراء في اليمين المتطرف، وأقطاب في المعارضة، من تساهل في مواجهة "حماس"، والعجز عن تحقيق نتنياهو وليبرمان لوعودهما الانتخابية بإسقاط سلطة "حماس" وتصفية قادة الحركة. وقد لفت، في هذا السياق الصحافي دان مرغليت، إلى أن الوضع الحالي يوجب على حكومة نتنياهو تغيير مواقفها المعلنة والكف عن الحديث عن شعار إسقاط حكومة وسلطة "حماس". اقتراح مرغليت يهدف، في واقع الحال، إلى تخليص حكومة الاحتلال، خصوصاً نتنياهو ووزير أمنه، من وعودهما الانتخابية، من خلال استغلال الظروف القائمة حالياً، خصوصاً الاهتمام الدولي بما يحدث في القطاع. وبالرغم من موقف السلطة الفلسطينية، بقيادة محمود عباس الرافض لأي مشاريع لتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة، لمحاولة الوصول إلى اتفاق تهدئة أو تسوية طويلة الأمد، فإنه لن يكون هناك مفر، وفق المنطق الإسرائيلي، من الاتجاه نحو عملية حسم عسكري يكون ضمن أهدافها إسقاط حكومة "حماس" وسلطتها في القطاع، وفق ما قاله وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شطاينتس، للإذاعة الإسرائيلية قبل دقائق من اجتماع الكابينت السياسي والأمني.
مع ذلك يبدي نتنياهو تردداً في اتخاذ خيار محدد، وهو ما دفع بمحللين إلى التذكير بأنه في الوقت الذي تملك فيه "حماس" خطة استراتيجية واضحة، فإن حكومة الاحتلال تواصل التعامل مع ملف غزة من خلال خطوات تكتيكية، في سياسة رد الفعل، على ما تقوم به الحركة، وفق ما ذهب إليه مثلاً تسفي برئيل في "هآرتس". مع ذلك، ورغم إقرار محللين، بينهم عاموس هارئيل، بأن اتفاق وقف إطلاق النار قد حقق هدفه الفوري والمباشر، إلا أن استعداد "حماس" للمخاطرة بمواجهة عسكرية شاملة لتحقيق هدف رفع الحصار المفروض على القطاع من جهة، وضغوط اليمين المتطرف في الحكومة نفسها، وضغوط المعارضة في اليسار، من شأنها أن تدفع نتنياهو إلى اتخاذ خياره بالتصعيد العسكري غير المحدود، بالرغم من أن الخطوات الإسرائيلية الأخيرة، من إغلاق معبر كرم أبو سالم وحتى دورة التصعيد المنضبط، إذا جاز التعبير، تعكس حقيقة ارتداع الاحتلال، وتحديداً نتنياهو وليبرمان وقادة الجيش عن عدوان عسكري جديد لا يمكن التكهن بمآلاته ولا بالمدة الزمنية التي يمكن أن يستغرقها هذا العدوان، مع أخذ نتنياهو بالحسبان أن استمرار عدوان "الجرف الصامد" في العام 2014 أكثر من 54 يوماً شكل في حسابات الربح والخسارة نوعاً من الهزيمة لإسرائيل، بالرغم من تفوقها العسكري المفترض على حركة مقاومة كانت تخضع لحصار دام عند بدء العدوان.