يوماً بعد يوم، تتكشف أكثر فأكثر رغبة الرئيس التونسي قيس سعيّد في الإمساك بكل خيوط اللعبة في البلاد، منتهجاً مساراً من التصعيد والمعارك التي لم تستثنِ أحداً، والتي لا تبدو نهايتها قريبة. فقبل وصوله إلى السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، كان سعيّد يقدم طروحات مختلفة للسياسة والأحزاب والسلطات، ليكرس توجهاته، خصوصاً عبر إجراءاته الاستثنائية التي اتخذها في 25 يوليو/ تموز الماضي، معطّلاً عمل البرلمان المنتخب من الشعب، ومطيحاً الحكومة التي اختارتها الأحزاب، ليمنح نفسه صلاحيات تنفيذية وتشريعية كبيرة، ويتجه للتفرد بالسلطة بشكل فعلي. في مساره هذا، فتح سعيّد معارك مع الجميع، وإضافة إلى حل البرلمان، ضرب سعيّد الأحزاب في مقتل، وشلّ حركتها وسلبها المبادرة منذ 25 يوليو الماضي، فيما كان بعضها ينتظر الاستفادة من الوضع لتصفية الحسابات مع خصومه، ولا سيما ضد حركة "النهضة"، التي شهدت انقسامات وخلافات داخلية أيضاً. وحتى قبل وصوله إلى الرئاسة، كشف سعيّد عن موقف معادٍ للأحزاب، إذ قال في حوار صحافي "الأحزاب جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية وبلغت أوجها في القرن الـ19، ثم في القرن 20، ثم صارت بعد الثورة التي وصلت عن طريق وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار. ربما يطول الاحتضار، لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها".
لا يزال سعيّد مصرّاً على حوار مع الشباب وفق رؤيته
وعاد سعيّد ليفجر أخيراً أزمة جديدة، هذه المرة مع القضاء، بطلبه من وزيرة العدل ليلى جفال إعداد مشروع يتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء، ورفعه شعار ضرورة "تطهير القضاء" ومحاكمة الفاسدين بسرعة، ليأتيه الرد سريعاً من القضاة المتمسكين باستقلاليتهم وبمبدأ الفصل بين السلطات. وأمام طموحات سعيّد للإمساك بكل خيوط اللعبة، وفي ظل التحديات الاقتصادية التي تمر بها البلاد، ومع تزايد الضغط الداخلي والخارجي، يتساءل التونسيون عن مآلات هذه المعادلة وإن كان سعيّد سيختار الهروب إلى الأمام أو سيذعن في نهاية الأمر لحقيقة أن الأزمات السياسية تستوجب الحديث مع الجميع. وإزاء هذا الوضع، وجّه الرئيس التونسي رسائل لافتة في كلمة له خلال افتتاح مجلس الوزراء مساء الخميس، إذ أعلن أن "التدابير الاستثنائية سيتم اختصارها"، من دون أن يوضح كيف ولا متى، مضيفاً "سيتمّ النظر في مجلس وزاري قادم في النص المتعلق بالحوار الذي تم اقتراحه والذي سينتظم بطريقة مستجدة مع التونسيين والتونسيات في الداخل وفي الخارج"، وهو ما يعني أنه يصرّ على الحوار الذي كان أعلن عنه، أي مع الشباب وعبر منصات إلكترونية وليس مع الفرقاء السياسيين. ولكن سعيّد في المقابل، وفي مواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلاد، أعرب عن تعويله على "العمل الدؤوب وتشريك كل المواطنين والمواطنات في داخل تونس وخارجها"، وهو ما يعني أن البلاد مقبلة على أيام صعبة وأن المواطنين سيدفعون ثمن فاتورة الأزمة. مقابل ذلك، كان سعيّد يفتعل أزمة جديدة مع القضاء، يُتوقع أن تشكل معركة كبيرة في الأيام المقبلة، بمطالبته بأن "يلعب القضاء دوره في هذه المرحلة التاريخية"، ودعوته لـ"تطهير البلاد وتطهير القضاء" ومحاكمة الفاسدين بسرعة ومعاقبة القائمات الانتخابية في آجال سريعة وغيرها. وأرفق ذلك بطلبه من وزيرة العدل إعداد مشروع يتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء، على الرغم من أن قانون المجلس الحالي لم تمر عليه خمس سنوات. ولكن يبدو أن القضاة متشبثون باستقلاليتهم، إذ جدّد المجلس الأعلى للقضاء، في بيان الخميس الماضي، "رفضه المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية، بمقتضى المراسيم، وبالضمانات المكفولة للقضاة وظيفياً وهيكلياً، وفي مقدمتها وجود المجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية ضامنة لحسن سير القضاء واستقلاله". وشدد على أن "أي إصلاح يتعلّق بالمجلس الأعلى للقضاء ينبغي أن يكون في نطاق المبادئ والضوابط التي جاء بها الدستور وليس في إطار التدابير الاستثنائية المتعلقة بمجابهة خطر داهم". ونبّه المجلس إلى" خطورة الضغط على القضاء والمساءلة خارج الأطر والضمانات القانونية"، مؤكداً "انخراطه في مسار الإصلاح ومحاربة الفساد والإرهاب"، ومجدداً دعوته إلى "ضرورة تعهّد القضاء بالملفات".
وتحمل هذه اللاءات رسالة واضحة ورداً على مطالب سعيّد، بما يدل على أن المواجهة ستكون صعبة وأن السلطة القضائية متشبثة بمبدأ الفصل بين السلطات، بعد أن أمسك سعيّد بكل السلطة التنفيذية (الرئاسة والحكومة) وبالسلطة التشريعية بعد تجميد البرلمان. بالتوازي مع ذلك، تستعد أطراف إضافية لتحدي سعيّد، إذ كشفت مصادر خاصة لـ"العربي الجديد" عن وجود تحركات جديدة للمعارضة التونسية واستعدادات لإعلان برنامج تحرك على قاعدة خريطة طريق جديدة ستكشف عنها يوم الإثنين المقبل في ندوة صحافية. وقال مصدر لـ"العربي الجديد" إن الفكرة الأساسية ستدور حول انتخابات مبكرة سابقة لأوانها، لأنها الحل الأمثل الوحيد للخروج من الأزمة، ولكن بشروط تسبقها سيتم الإعلان عنها. وأضاف أنه ستتم الدعوة لتحركات في الشارع لدعم هذه الخريطة والدفع نحو القبول بها والنضال من أجل تحقيقها.
وفي السياق، كشفت مصادر من حملة "مواطنون ضد الانقلاب"، لـ"العربي الجديد"، أنها توصلت إلى اختيار هيئة تنفيذية جديدة للحملة سيتم الإعلان عنها. وقالت المصادر إن مرحلة الصمت في الفترة الأخيرة كان مردها البحث عن تحالفات سياسية لأنه لا معنى للتحرك في الشارع من دون استثماره سياسياً، والتحركات الأولى كان هدفها السياسي كسر سردية احتكار سعيّد للإرادة الشعبية وللشارع، وقد تم تحقيق هذا الهدف، والتحرك المقبل سيكون للدفاع عن خريطة الطريق الجديدة.
وعن ذلك، رأى رئيس الهيئة السياسية لحزب "أمل"، أحمد نجيب الشابي، أن "المشهد السياسي يتسم بالكثير من التخبّط والهروب إلى الأمام نحو طريق مسدود، والرئيس ليس لديه استعداد لسماع الناس فضلاً عن محاورتهم"، مبيناً أن "خطاب سعيّد فيه إقرار متأخر بوجود أزمة، ولكنه لا يعي حقيقة نتائج الانقلاب الذي أقدم عليه". وأوضح الشابي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "سعيّد عزل تونس تماماً وأغلق عليها أبواب الحصول على قروض من الخارج في هذه الأزمة الخانقة، بالإضافة إلى أن الحصول على قروض من الداخل مكلف جداً ومن شأنه أن يهدم ما تبقى من اقتصاد، والرئيس لا يبدو واعياً بالإكراهات التي تعانيها تونس، ويعيش سياسة الهروب إلى الأمام ولا يريد الاعتراف بمكوّنات المجتمع التونسي كما هي". وأضاف أن سعيّد "لا يؤمن بالتنظيمات السياسية والهيئات التمثيلية، وهو في حالة مناجاة وهمية مع الشعب وسيتحاور معهم إلكترونياً، ومعاونوه سيلخصون فحوى هذه الحوارات، بما يعني أنه بعيد جداً عن الواقع". وبخصوص الحلول المتاحة للأزمة، أوضح الشابي أن "الحل يكون في حوار وطني، ففي إطار الأزمة التي نعيشها لا يمكن لأي شخص أن يأتي بحل ويفرض التوافق عليه، أما النقطة الثانية فتتمثل في حكومة إنقاذ وطني لأن الأزمة الاقتصادية لا تنتظر والرواتب والمعاشات للشهر المقبل غير مضمونة، وهذا يتطلب حكومة وبرنامج إنقاذ متفقاً عليهما". ورأى أن "النظام السياسي وصل إلى شلل تام في الدولة ولا بد من إصلاحه، والحوار الوطني يبلور الخيارات الممكنة ويعرضها على الاستفتاء، وعلى ضوء نتائجه يتم النظر في إمكانية إجراء انتخابات مبكرة، وهذا هو الحل الممكن الذي لا يمكن الخوض الآن في تفاصيله، لأن ذلك يتناوله مؤتمر الحوار".
تستعد المعارضة لبرنامج تحرك وفق خريطة طريق جديدة
من جهته، اعتبر أستاذ القانون الدستوري، الناشط في حملة "مواطنون ضد الانقلاب"، جوهر بن مبارك، في حديث مع "العربي الجديد"، أن خطاب سعيّد الخميس "خطاب الأزمة الأول، خطاب مرتبك على وقع انسداد الأفق الداخلي والخارجي، وعجزه عن تعبئة الموارد لمواجهة الأزمة المالية الخانقة، وهو يسير بوضوح في سياسة تعميق التضخّم وتحميل الفقراء نتائج ذلك، والمزيد من إثقال كاهل المواطنين بدعوتهم لدفع ثمن الانقلاب وثمن الإخفاق وتحميلهم وزر عجز سلطة الانقلاب". وفسّر بن مبارك اختصار الإجراءات الاستثنائية الذي أعلن عنه سعيّد بأنه "يقصد فقط التعجيل بتنفيذ ما يريد قبل أن يبلغ الضغط حدّاً لا يطاق، وهو يريد تنفيذ برامجه التي وضعها وفق مشروعه السياسي الخاص وحواره مع الشباب والاستفتاء على طريقته"، مضيفاً "إنها جمل مخاتلة موجّهة إلى الخارج لمحاولة فكّ الخناق أمام استفحال الأزمة السياسية والاقتصادية والدبلوماسية وشعوره بالخطر". ورأى أن "سعيّد يريد توجيه رسالة للخارج بأن إجراءاته ليست أبدية، لأن كل المواقف الصادرة عن الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية والكونغرس والمؤسسات المالية تطالب بسقف للإجراءات الاستثنائية وعودة عمل المؤسسات الدستورية والمنتخبة، وكأنه يريد طمأنتها بذلك، ولكنه في الحقيقية يربط ذلك بما يريد تحقيقه أولاً من أهداف رسمها على المستوى الداخلي، أي التعجيل بالمهمة". في المقابل، اعتبر الأمين العام لحركة "الشعب"، الداعمة للرئيس، زهير المغزاوي، أنّ سعيّد "باعتزامه الاختصار في التدابير الاستثنائية، بدأ يقترب من المطلوب من خلال التوجه نحو تحديد سقف زمني للمرحلة الحالية وتحديد الأطراف التي ستشارك في الحوار الوطني". وقال المغزاوي في تصريح لإذاعة موزاييك الخاصة، أمس الجمعة، إن "توجّه الرئيس إيجابي وتضمّن نوعاً من الاستجابة لمطالب الحركة ومطالب العديد من القوى التقدمية في البلاد بتسقيف المرحلة الاستثنائية حتى يطمئن الجميع ونعلم إلى أين نحن ذاهبون"، متابعاً "نرجو أن يتم خلال المجلس الوزاري الذي سيعقد الأسبوع المقبل تحديد سقف زمني واضح تُنظَّم على إثره الانتخابات". وبالنسبة لحديث الرئيس عن إعداده لاستفتاء إلكتروني بخصوص الحوار مع الشعب، قال المغزاوي "ندعم فكرة التوجه إلى الشباب بأي طريقة كانت، ولكن هذا لا ينفي ولا يتعارض مع ضرورة الحوار مع القوى التقدمية والمنظمات الوطنية المؤمنة بضرورة تصحيح المسار والتي لم تتورط في الفساد والإفساد ولا في دم التونسيين".