يعبّر الكثير من النشطاء والمراقبين للمشهد الليبي عن عدم قدرتهم على فهم مسار اتجاهاته، واستعصاء التكهن بما هو آتٍ في القريب فضلاً عن البعيد، فالمشهد لا يتوقف عن تصدير المفارقات الناتجة عن الفوضى التي غاب في أتونها المنطق. وأحدث مفارقة الانسداد الكبير في طريق التوافق حول الأطر الدستورية والقانونية للانتخابات من جانب، والخطوات التي أنجزتها المؤسسات المعنية بتوفير ظروف إجراء الانتخابات من جانب آخر.
وعلى الرغم من حدة الخلافات بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول ضرورة اشتراكهما في الإعداد للتشريعات اللازمة للانتخابات، إلا أنهما توافقا حيال عدم أحقية ملتقى الحوار السياسي في إصدار القاعدة الدستورية. كما تناغمت مواقفهما بشأن عدم الاعتراف بخريطة الطريق، إلا لماماً، وفقاً لمصالحهما، مع أنهما يتعاملان مع مخرجاتها، وعلى رأسها الحكومة والمجلس الرئاسي واللجنة العسكرية المشتركة "5 + 5" (تضم ممثلين عسكريين عن الحكومة ومليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر).
مفارقة ثانية ترتبط بالإجراءات والإعلانات من جانب المؤسسات الرسمية والحكومية المعنية بتوفير الظروف لإجراء الانتخابات. وتبدو الصورة للمطلع على أعمالها ناصعة البياض والطريق ممهد للانتخابات، ومنها إعلان المفوضية العليا للانتخابات عن فتح منظومة تحديث السجل الانتخابي للمترشحين للانتخابات وللناخبين، لتفيد، في آخر تحديثاتها، بوصول عدد الناخبين المسجلين لديها إلى أكثر من مليونين ونصف المليون.
وتزامناً، لم يتوقف المجلس الأعلى للقضاء عن منح التصاريح القانونية للأحزاب السياسية الجديدة، التي ترغب في خوض غمار الانتخابات، وآخرها ثمانية أحزاب، وذلك بالتزامن مع إعلان وزارة الداخلية عن تجهيز 35 ألف شرطي لتأمين الانتخابات. بدوره لم يكن الملف العسكري، أكثر الملفات حساسية، بعيداً عن سياق ظهور المفارقات التي تستعصي على الفهم. فلم تمر أيام على خطابات حفتر، التي أعلن فيها صراحة رفضه الخضوع إلى أي سلطة في البلاد، حتى اندلعت حرب بيانات بين مختلف الأطراف، لم تغب عنها مفردة "الحرب" و"العودة للمربع الأول"، تزامناً مع بيان لجنة "5 + 5" بشأن مطالبتها الحكومة تجميد الاتفاقيات العسكرية.
وفجأة، ودون سابق مقدمات، تناقلت منصات التواصل الاجتماعي المقربة من طرفي الصراع، ليل الثلاثاء الماضي، صوراً لاجتماع ضم قادة أبرز فصيلين عسكريين في معسكري شرق وغرب البلاد، النقيب محمد الحصان، قائد "الكتيبة 166" الذراع العسكرية الضاربة في مصراتة، والعقيد عمر امراجع، قائد مليشيا "طارق بن زياد" التابعة لحفتر، لبدء مشاورات بشأن تشكيل قوة مشتركة لتأمين المناطق والطرقات الصحراوية القريبة من الجفرة، دون أن يبدي قادة وعناصر الطرفين أي ردود فعل حيال هذه الخطوة.