تسعى تونس حالياً إلى تعزيز حضورها في الملف الليبي، وذلك بعدما سكتت المدافع، وتوفّر الحد الأدنى من الاستعداد النفسي والسياسي لدى الأطراف المتنازعة للجلوس والحوار. ويُعتبر ملتقى الحوار السياسي الذي احتضنته تونس محاولة أخرى تقوم بها الأمم المتحدة من أجل إخراج الليبيين من دائرة الصراع وبناء توافق حول خريطة طريق. لهذا قرر الرئيس التونسي قيس سعيّد الإشراف بنفسه على جلسة الافتتاح، ولم يكتف بإلقاء كلمة افتتاحية بروتوكولية، وإنما جازف بتقديم نصائح واقتراحات قد تساعد على معالجة الأزمة. ويعتبر تخصيص ستة أيام متتالية لفعاليات المؤتمر دليلاً على أهمية هذا الملتقى الذي يفترض أن يؤسس لمسار طويل ومعقد يسلكه الجميع حتى يصلوا إلى تسوية نهائية لأزمة طالت.
تراهن تونس على أمرين أساسيين، أولهما الاعتماد على إرادة الليبيين في التوصل إلى حلّ نهائي، وعلى هذا الأساس، ترفض تونس على الصعيد الرسمي أي تدخل خارجي في الشؤون الليبية، خصوصاً إذا اتخذ طابعاً عسكرياً، ولا تعتبره وسيلة ناجعة أو مساعدة على إعادة الثقة بين الأطراف المتنازعة. أما الرهان الثاني للدبلوماسية التونسية، فيخصّ التمسّك بالحوار كأداة وحيدة للتغلّب على التناقضات الجوهرية والثانوية التي تشق المجتمع الليبي ووضعته فوق فوهة بركان.
المؤتمر مهدد بالفشل في حال عدم التوصل إلى نتائج ملموسة قابلة للتنفيذ
يكتسب اجتماع تونس أهمية خاصة، إذ جمع 75 شخصية تمثل جميع الأطياف والتيارات الفكرية والسياسية والقبلية الفاعلة حالياً في ليبيا، بما فيها أطراف شاركت بقوة في الحرب خلال المرحلة السابقة، ودار جدل واسع حولها، إذ اعترض كثيرون على مشاركتها في هذا الملتقى. غير أنّ الأمم المتحدة من خلال مبعوثتها، ستيفاني وليامز، كان لها رأي مغاير، فأصرّت على أن يجمع اللقاء أوسع عدد ممكن من الممثلين، حتى تكون القرارات والتوصيات التي ستصدر عن الاجتماع ملزمة وذات مصداقية. وبذلك، يتم التقليل من احتمال حصول انتكاسة والعودة من جديد إلى نقطة الصفر. وقد وضعت لذلك مجموعة معايير، من أهمها "ضمان التعددية وتنوع النسيج السياسي وخلق الحلول التوافقية".
وعلى الرغم من أهمية اللقاء من الجانب الرمزي، إلا أنه مهدد بالفشل في حال عدم التوصل إلى نتائج ملموسة قابلة للتنفيذ ويمكنها أن تحدث منعرجاً نحو تغيير الأوضاع الراهنة. هناك اتفاق على التوصل إلى صيغة توافقية حول تشكيل المجلس الرئاسي المقبل الذي ينتظر الليبيون بكل شغف أسماء أعضائه. إلى جانب ذلك، لا بدّ من وضع آلية للبت في مسودة الدستور التي تم إعدادها قبل أشهر من الهجوم على العاصمة طرابلس في إبريل/ نيسان 2019، وألا يتجاوز ذلك سبعة أشهر على أقصى تقدير، نظراً لارتباط ذلك بموعد الانتخابات. لهذا، احتلت هاتان المسألتان حيزاً رئيساً في أعمال الملتقى، إلى جانب اللجنة التي تم اختيارها للنظر في مسألة سحب القوى العسكرية، وإحلال تشكيلات وزارة الداخلية الليبية محلها، والتي ستكون مختلطة ومشكلة من معسكري الشرق والغرب.
وعلى الرغم من شكوك البعض في احتمال أن يفشل اللقاء، وتطغى عليه الشكليات، إلا أنّ عوامل عديدة وجديدة قد تجعل منه خطوة نوعية نحو التسوية. لقد سقط خيار الحرب، ولم يعد يلقى حماسة من قبل أغلب الليبيين. كما أنّ المزاج الدولي أصبح مختلفاً اليوم وداعماً لإحلال السلام في ليبيا. ويُعتبر فوز جو بايدن برئاسة الولايات المتحدة الأميركية عاملاً مهماً من شأنه أن يصبّ في صالح التسوية السياسية داخل ليبيا، وخصوصاً أنّ الرئيس المنتخب سبق له أن زار ليبيا، ولديه نية في دفع السياسة الخارجية نحو مزيد من الاهتمام بشمال أفريقيا، مثلما ورد في تقرير لمركز كارنيغي للشرق الأوسط أخيراً. وهو ما جعل القوى الإقليمية تعدل في سياساتها، وتنتظر نتائج هذه الحوارات بين الليبيين. كما قبل المشاركون في الملتقى بالشرط الذي عرض عليهم والمتعلق بعدم الترشح لأي منصب في السلطة المقبلة.
عوامل عديدة وجديدة قد تجعل من الملتقى خطوة نوعية نحو التسوية
هناك حاجة ملحّة لوجود غطاء سياسي جامع لمختلف مكونات الجسم الليبي، وهناك ضرورة قصوى لتوحيد المؤسسات وإرساء سلطة تنفيذية واحدة، والاستناد إلى بنك مركزي تكون شرايينه ممتدة في كامل التراب الوطني. ونظراً لأهمية هذه الأهداف الرئيسية، تستعد الأمم المتحدة لفرض عقوبات ضد أي طرف سيحاول تعطيل تنفيذ التوصيات المقبلة وإجهاض المسار السياسي. لكن من بين العقبات التي يجب أن يتجاوزها المتحاورون ما يخصّ أسماء الأشخاص الذين سيتولون عضوية المجلس الرئاسي والحكومة. هناك جدل واسع حول هذه المسألة الحساسة، لا سيما أن من الشروط التي وضعتها الأمم المتحدة أن لا يكون المرشح قد شارك في أي عنف ضد خصومه السياسيين أو حرّض عليهم. وهو شرط قد يقصي بعض الأسماء البارزة، مثل رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح. كذلك الشأن بالنسبة للواء المتقاعد خليفة حفتر، إذ اشترطت الأمم المتحدة أيضاً أن يكون المرشح مدنياً أو ترك الخدمة العسكرية قبل خمس سنوات على الأقل، ولا يحمل جنسية غير ليبية.
يلعب ملتقى الحوار الليبي المنعقد في تونس دور البرلمان المؤقت الذي يمكنه أن يجتمع في أي وقت من أجل دفع مسار التسوية وتذليل أي خلاف ينشأ بين الأطراف. إذا نجح هذا الهيكل في انطلاقته الأولى بتونس، فإنه سيصبح يمثل أمل الليبيين خلال هذه المرحلة الدقيقة. ولأجل ذلك، حرصت الرئاسة التونسية على توجيه كامل اهتمامها ورعايتها لهذا الحدث المهم.