منتدى فلسطين: تسعة باحثين يشرحون سياقات الهيمنة الاستعمارية على الأرض والذاكرة

12 فبراير 2024
من الندوة حول الهيمنة الاستعمارية في ختام المنتدى السنوي لفلسطين (العربي الجديد)
+ الخط -

تناولت تسع أوراق بحثية قدمت الاثنين، في اليوم الختامي للمنتدى السنوي لفلسطين 2024، في الدوحة، ثلاثة مسارات حول "الذاكرة والمتخيل على أرض فلسطين، والهيمنة الاستعمارية ومنها الهيمنة عن بعد، وأنظمة السيطرة والبيئة والصحة في سياق الاستعمار الصهيوني الاستيطاني".

في المسار الأول، تناولت صفاء جابر، مساعدة بحث في العديد من المجالات القانونية، تحت عنوان "هيمنة عن بعد، لكنها فعالة: الوضع القانوني لقطاع غزة بوصفه أرضاً محتلة في القانون الدولي"، وقالت إن المعيار التقليدي لتحديد وجود الاحتلال العسكري على أرض جغرافية يتطلب وجود سيطرة فعالة في يد قوة الاحتلال.

لكن الأوضاع السياسية والتاريخية والجغرافية لقطاع غزة مكنت إسرائيل من إحكام سيطرتها عليه عن بعد، على الرغم من انسحابها منه في عام 2005 وسيطرة حركة حماس السياسية عليه، وفقاً للمتحدثة.

وناقشت الورقة البحثية للمتحدثة استمرارية وجود حالة الاحتلال لقطاع غزة، استناداً إلى المساحة الجغرافية الصغيرة لقطاع غزة، واستخدام الاحتلال تكنولوجيا متطورة للتحكم فيه، والوجود السياسي لحركة حماس والمقاومة الشعبية، والفترة الزمنية الطويلة للاحتلال السابقة للانسحاب، وقرب قطاع غزة من الكيان الإسرائيلي. وبحسب المتحدثة، مهد ذلك لاستمرار حالة الاحتلال ما بعد الانسحاب، وسيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الصادرات والواردات وحركة الناس من قطاع غزة وإليه.

الهيمنة الاستعمارية والحكم غير المباشر

وتحت عنوان "الهيمنة الاستعمارية والحكم غير المباشر في الضفة الغربية"، تحدثت غادة السمان عن العلاقة التبعية الخاضعة للاحتلال، ومن خلال نظام تمثل في إنشاء حكم غير مباشر أنتج نمطاً استعمارياً مختلفاً بنيوياً وآلياً أعقب عملية السلام وتوقيع اتفاقية أوسلو التي بموجبها نشأت السلطة الوطنية الفلسطينية.

ووفق ورقتها، فإن الحكم غير المباشر كان ضمن البنية العلاقاتية مع الاحتلال من اتجاهات مختلفة من خلال إحداث فصل متعدد المستويات على مستوى جغرافي وديموغرافي وسياسي، وإنشاء نخبة تتعاون مع الاحتلال وتتولى إدارة الحكم الذاتي الفلسطيني، وسيطرة الاحتلال على الضرائب الفلسطينية التي تشكل المحور الأساسي لإيرادات السلطة الفلسطينية.

وفي مستوى آخر، امتازت إدارة الاحتلال ببناء نظام أخذ بنية هرمية، تعمل فيه السلطة تحت هيمنة الاحتلال في أدنى الهرم، وتحدد دورها في تطبيق السياسات العامة وإعطاء المعلومات، حسب المتحدثة.

وعلى ذلك فإن السمان تعاين تطور الهيمنة الاستعمارية بسرعة مع مرور الزمن نحو مزيد من السيطرة والمراقبة على السكان الفلسطينيين، إضافة إلى طبيعة الإدارة الاستعمارية من حيث الهرمية، وما يقترن بها من تداول المعلومات واستخدامها وتنفيذ الأوامر والسياسات، والمناورة على مختلف الأبعاد العلاقاتية بين الاحتلال والسلطة الفلسطينية، والتي تشمل المناورة على المفاوضات والحيز والزمن.

من جانبها، أجرت نتالي سلامة طالبة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية في جامعة بيرزيت، قراءة نقدية لمصطلح الكمبرادور في ورقتها "البرجوازية التجارية في السياق الفلسطيني" وجادلت بأن توظيف الأدبيات الاقتصادية السياسية الفلسطينية في سياق وصف البرجوازيات التجارية الفلسطينية أدى في الحصيلة إلى تكريس نظرية ضيقة وأحادية، لا ترى في البرجوازية التجارية الفلسطينية إلا طبقة متعاونة مع الاستعمار، يقتصر دورها على تعميق الهيمنة الاستعمارية من جانب، والتبعية من جانب آخر.

وقدمت سلامة ما قالت إنها ثلاث حقائق عادة ما يجري إغفالها في الأدبيات التي درست الاقتصاد الفلسطيني، أولاً، هناك قدر من التناقض بين مصالح البرجوازية التجارية الفلسطينية والاحتلال، يتجلى في حقيقة أن ممثلي المصالح الاحتلالية يقتصون حصة من أرباح التجار الفلسطينيين المنتمين إلى الاقتصاد التابع، ومن ثم هناك مصلحة لدى الكثير من التجار الفلسطينيين في التخلص من "الشراكة الإجبارية" مع نظرائهم/أوصيائهم الإسرائيليين.

وثانياً، بحسب الطالبة سلامة، عند النظر بعمق في كيفية تأثر البرجوازية التجارية بالإجراءات التي يطبقها الاحتلال منذ عام 1967 حتى الآن، "سنكشف عن نطاق واسع من القيود الشديدة المفروضة على التجار الفلسطينيين ذات الأثر السلبي في أعمالهم وربحهم. وهو أمر آخر تميل الأدبيات عادة إلى إغفاله".

أما الحقيقة الثالثة، تتمثل في ميل الأدبيات الفلسطينية إلى الفصل بين النشاطين التجاري والصناعي، "وهي بذلك تغيب رأس المال التجاري بوصفه عنصراً مركزياً في عملية الإنتاج، وتتجاهل مكانته التي تشكل نشاطاً وسيطاً يربط بين الاستهلاك والإنتاج وفي السياق الفلسطيني من شأن تجاهل مكانة التجارة أن يثير تشويهاً مضافاً إلى عملية الفهم، نتيجة كون البرجوازية الصناعية الفلسطينية جزءاً من المجموعة الأكبر للبرجوازية التجارية".

العنصرية الطبية

في المسار الثاني حول الصحة والبيئة في سياق استعماري استهلت ورقة "تعريف الفصل العنصري الطبي من خلال التجربة الفلسطينية: إطار تاريخي" بنظرة تاريخية إلى مصطلح الفصل العنصري الطبي الذي استخدم في الولايات المتحدة على نطاق واسع، للإشارة إلى العلاج الطبي غير الأخلاقي والتجارب الطبية على الأميركيين من أصل أفريقي، أو التأثير السلبي للفصل والعنصرية في الرعاية الصحية والتأمين الصحي.

وذهبت الورقة إلى نموذج جنوب أفريقيا، حيث يشير مصطلح "العنصرية الطبية" إلى الآثار الطبية لنظام الفصل الذي جرى تطبيقه على السود في البلاد، ونتج فصل الأنظمة الصحية من الفصل الأوسع بين الأعراق. وفي الآونة الأخيرة، استخدم مصطلح "الفصل العنصري في اللقاح" للإشارة إلى التوزيع غير العادل للقاح فيروس كورونا المستجد بين دول الشمال وبلدان الجنوب العالمي، وهو صورة تعكس عدم المساواة في فترة ما بعد الاستعمار والاستغلال الاقتصادي المستمر للجنوب العالمي من طرف الشركات والقوى الجديدة.

وسلطت الورقة الضوء على أدوات الاستعمار الاستيطاني، لتتبع تشكيل خدمات الرعاية الصحية في فلسطين وتوسيعها، وما أوجدته حالياً من تفاوت في الحق في الرعاية الصحية وإمكانية الوصول إليها بين المجتمعات المختلفة.

الصورة
ندوة حول الهيمنة الاستعمارية في فلسطين (العربي الجديد)

واستخدمت الورقة نظام الرعاية الصحية لاستكشاف مفاهيم أكبر حول الدولة، وانعدام الجنسية، والسيادة، والمواطنة، وتراجع التنمية، والتبعية، والعمل الإنساني، كونها مركباً أساسياً في حياة الفلسطينيين، وصحتهم ومرضهم وموتهم. ومن خلال تتبع تشكيل نظامين منفصلين وغير متساويين للرعاية الصحية.

السياسة الحيوية للانتظار

حول فضاءات الانتظار المكانية والزمانية للمرضى في غزة الذين ينتظرون السفر عبر حاجز بيت حانون (إيرز) للعلاج في مستشفيات الضفة الغربية والقدس، أو الداخل المحتل جاءت مساهمة الباحثة إشراق عثمان بعنوان "السياسة الحيوية للانتظار".

وطرحت الباحثة فكرة الوقت وعلاقته بممارسة الانتظار المختلفة، انتظار التصاريح، والانتظار على الحاجز، وانتظار دخول العلاج إلى غزة وغيرها، مضيئة على النظام الصحي في غزة، وما يتعرض له من حصار خانق يؤثر في رعاية المرضى تأثيراً مباشراً، ومنع الكثير من الأدوية من الدخول والعديد من الأطباء من السفر إلى الخارج لتلقي الدورات التدريبية المتخصصة، إضافة إلى عرقلة تصاريح خروج المرضى للعلاج في الخارج.

حالة الاستثناء البيئية

عاين نور الدين أعرج الباحث والصحافي الفلسطيني أحد تمظهرات الاستعمار الاستيطاني متمثلاً في حالة الاستثناء البيئية، مركزاً على تدفق النفايات إلى الضفة الغربية.

وجاءت مشاركة الباحث حول مكبات القمامة الإسرائيلية في الضفة الغربية باعتبارها جزءاً من سياق بنيوي واسع من العنف الشامل تجاه الإنسان الفلسطيني والبيئة الفلسطينية، مبيناً كيفية تطور الضفة الغربية لتكون حالة استثناء إيكولوجية في الخطاب البيئي الإسرائيلي.

وجادل بأن سياسة المخلفات الاستعمارية، إلى جانب تأثيرها في عافية الفلسطينيين، تسعى لإعادة تشكيل المشهد الحضري الفلسطيني وتعطيل العلاقة بين السكان الأصليين والأرض.

في المسار الثالث حول صراع الذاكرة حظيت ورقة إيمان بديوي بالقسط الأكبر من المناقشات والأخذ والرد، لطرحها موضوع "عرين الأسود: ما الذي تكشفه وصايا شهدائها؟".

وحاولت بديوي تكوين فهم سوسيولوجي عن مجموعة "عرين الأسود" البارزة مؤخراً في فضاء المقاومة الفلسطينية المسلحة بوصفها نمطاً مستجد السمات، وذلك اعتماداً على تحليل نصوص وصايا شهدائها التي كان لها الدور المركزي في تكثيف التفاعل مع المجموعة وإثارة تخوف الاحتلال من تنامي نشاط الكفاح المسلح في الضفة الغربية.

وبينت الورقة أن تحليل مضمون الوصايا كشف عن قدرة مجموعة "عرين الأسود" على إعادة تعريف الموت، وإنتاجه عبر تمجيد الموت (الاستشهادي) ورفض تطويع الجسد، وعن تجلي وعي أفرادها بعلاقة الفلسطيني مع المحتل وعلاقته بالآخر.

إضافة إلى ذلك تنظر الورقة إلى أن الوصية بوصفها تمثل خطاب مقاومة محملاً بالقيم الوطنية، تبين أن لوصايا شهداء العرين دوراً مركزياً في التعبئة الجماهيرية وتشكيل الحاضنة الشعبية للمجموعة على مستويي الفكرة والفعل، مع قدرتها على إحياء نموذج البطل ورمزيته في العمل الثوري ودوره في إنتاج تعاقبية فعل المقاومة والاستشهاد.

مخيلة فلسطينية

وتحت عنوان "الوطن هو نحن: إعادة تصور التحرر من خلال المخيلة الفلسطينية"، قالت الكاتبة والباحثة مرح عبد الجابر من جامعة شيكاغو إن تفكيك المشروع الصهيوني للوجود الفلسطيني، منذ عام 1948، يسعى إلى تمزيق الوعي الجماعي الفلسطيني على نحو دائم، ما يولد ظروفاً مجزئة للواقع الفلسطيني، تتطور وتنتقل عبر الأجيال والجغرافيا.

وفي حين تعمل إسرائيل على تفكيك الجماعة الفلسطينية من خلال تصنيع العنف الذي يخترق الوجود الفلسطيني ويعطله، فإن الشعب الفلسطيني في سعيه للتحرر يحتاج إلى مشهد دولي يتجاوز الدولة القومية، آخذاً في الاعتبار السياقات المختلفة للاحتلال، بحسب مرح عبد الجابر.

وعلى هذا الأساس، تحاجج ورقة الباحثة بأن هذا المشهد يمكن أن يعرّف على أنه المخيلة الفلسطينية، وهو مقتبس من الفلسفة الإسلامية وأعيد تصوره بوصفه نموذجاً للمشهد الفلسطيني الذي يتيح الوصول إلى وطن موحد يخليه الاحتلال.

تحرير الذاكرة

ويرى عماد موسى الباحث والكاتب المتخصص في علم النفس السياسي، أن أساليب طمس الذاكرة الفلسطينية في الفكر الصهيوني تنقسم إلى نمطين من أنماط النسيان الأول نسيان سلبي، والثاني نسيان نشط.

وفي ورقته "تحرير الذاكرة: أنماط تغييب التاريخ الفلسطيني في إسرائيل"، يفصل هذين النمطين بالقول إن النسيان السلبي يسيطر عليه الجانب النفسي، مرتكزاً غالباً على الانغماس المفرط في سرديات الضحية أو المظلومية التاريخية للشعب اليهودي، ثم لاحقاً الشعب اليهودي الإسرائيلي.

وأحد إرهاصات هذا الانغماس هو الانكفاء الأناني على الذات، ومن ثم التآكل في مستوى الإحساس الجمعي بالذنب تجاه الآخر، خصوصاً الفلسطيني: أي إن عقدة الضحية تصبح وسيلة قد تكون غير واعية لتجنب التعامل مع الذاكرة الفلسطينية باعتبار أنها قد تهدد صورة اليهودي الضحية وتحوله إلى جلاد، وهو ما يتناقض كلياً مع الصورة النفسية التي بنيت عليها الذاكرة الجمعية الصهيونية.

أما النسيان النشط فيبين أنه حالة واعية ومتعمدة يعبر عنها عن طريق فرض حقائق على الأرض لطمس التاريخ الفلسطيني أو محوه أو إعادة تفسيره بما لا يتعارض مع السرديات التأسيسية للحركة الصهيونية ودولتها.

وخلص إلى أن أساليب الطمس تراوح بين الإخفاء وإزالة المعالم المادية أو الرمزية للمراكز المعمارية في فلسطين ما قبل النكبة، أو حبس الحقائق عن حرب 1948 في الأرشيف العسكري للدولة العبرية، أو تمييع السردية الفلسطينية في الكتب المدرسية اليهودية، أو عن طريق سن قوانين تجريم التعامل مع التاريخ الفلسطيني داخل الخط الأخضر.