تختصر كلمة Sleaze باللغة الإنكليزية الكثير من المعاني الرديئة، بما فيها الفساد، وقلّة الاحترام، والانحراف الأخلاقي، والسلوك غير المشرّف، والأفعال غير اللائقة، خصوصاً في عالم السياسة والأعمال. كما أنها كانت الأكثر استخداماً وتداولاً خلال فترة حكم زعيم "حزب المحافظين" البريطاني جون ميجور، والذي امتدت ولايته من عام 1990 إلى عام 1997، وشهدت مجموعة كبيرة من فضائح الفساد، أدّت في النهاية إلى استقالته من الزعامة عام 1995، وخسارة الحزب لاحقاً في الانتخابات العامة أمام "حزب العمال" المعارض.
اليوم، يعود استخدام هذه الكلمة من جديد، لوصف حكومات "حزب المحافظين" المتعاقبة منذ فترة حكم بوريس جونسون الذي تنحّى الصيف الماضي، مروراً بليز تراس التي كانت ولايتها هي الأقصر تاريخياً، وصولاً إلى الزعيم الحالي ريشي سوناك، والذي أصدرت الشرطة بحقّه غرامتين بسبب خرقه القانون.
وليس أمراً عابراً، أن تعود تلك الكلمة تحديداً للتداول اليوم، بعد أشهر على تداول عبارة "شتاء السخط"، والتي ترمز إلى فترة السبعينيات عندما ساهمت حركة الإضرابات الواسعة في إسقاط حكومة جيمس كالاهان. وكأنّ منتقدي الحكومة البريطانية فضّلوا أن يكون النقد مباشراً، واضحاً وموجعاً، بالقدر الذي تتسبّب فيه سياسات الحكومة بكوارث تؤثر على حياة الملايين.
ففي حين أن "شتاء السخط" أسقط حكومة حزب "العمال"، فإن فضائح الـ Sleaze قد أسقطت حكومة حزب المحافظين الموجود اليوم في السلطة. وحتى وإن كان "شتاء السخط" مطعّماً بالرؤية الاقتصادية نفسها التي يدافع عنها سوناك اليوم، غير عابئ بما تتسبّب به من ضيق، إلا أن فضائح التسعينيات تكاد تلامس مستوى الفضائح التي تعيش الحكومة على وقعها حالياً.
أبرز ملامح فضائح الـ Sleaze في التسعينيات:
- 1990 منح وزير التجارة آلان كلارك إذناً لشركة "ماتريكس تشرشل" ببيع أدوات آلية للرئيس العراقي صدام حسين، على الرغم من حظر الأسلحة آنذاك، وبشكل خاص مع اقتراب حرب الخليج.
- 1992 اعتقال عضو البرلمان عن حزب المحافظين آلان آموس، بعد ضبطه مع رجل آخر في منطقة هامستيد هيث شمال لندن. وفي وقت لاحق من العام نفسه، استقال وزير المالية ديفيد ميلور عقب سلسلة من فضائح الفساد.
- 1993 استقالة وزير البيئة والريف تيم يو، بعد أن أنجب طفلاً خارج مؤسسة الزواج مع عضو مجلس المحافظين جوليا ستينت، مع أنه أعرب في وقت سابق عن تأييده تقاليد الزواج والإنجاب.
- 1994 اتُّهم أربعة نوّاب عن الحزب بفضيحة "النقد مقابل الأسئلة"، حيث تلقّى كلٌّ من ديفيد تريدينيك ونيل هاملتون وغراهام ريديك وتيم سميث أموالاً طائلة من رجل الأعمال المصري ومالك "هارودز" محمد الفايد، مقابل أن يطرحوا أسئلته في مجلس العموم. وفي العام ذاته، قامت زوجة النائب ديفيد آشبي باتّهامه بخيانتها مع رجل.
- 1995 اتُّهم وزير الدفاع جوناثان إيتكن بعقد صفقات سرية مع أمراء خليجيين، وبتمرير أسلحة بملايين الدولارات من خلال البرلمان.
وكان ميجور قد أعلن في مؤتمر حزب المحافظين عام 1993 عن مبادرته "العودة إلى الأساسيات"، داعياً إلى إحياء القيم العائلية التقليدية، وإصلاح السلوكيات الأخلاقية المتمثلة بالانضباط الذاتي، واحترام القانون، ومراعاة الآخرين، وتحمّل المسؤولية. وهي "الأساسيات" ذاتها التي عبّر عنها سوناك بعد فوزه في السباق إلى "داونينغ ستريت"، مستخدماً تعابير أخرى لكن شبيهة مثل "تحقيق النزاهة والكفاءة المهنية والمساءلة".
سجل حافل بالفضائح
إلا أن سوناك عرضة للفضيحة اليوم أكثر بكثير من ميجور في التسعينيات، أو كالاهان في السبعينيات، أو حتى جونسون العام الفائت، لأنه ببساطة ربط وجوده ومستقبله السياسي كزعيم بقضية إنقاذ سمعة الحزب والحكومة، وتصحيح الأخطاء السابقة التي ارتُكبت، وتحقيق الشفافية والنزاهة، بل إن البعض يعتقد أن فضائح اليوم تبدو مجلجلة أكثر بكثير من فضائح الـSleaze، خاصة أنها تمزج الفساد والمحسوبية بتدنّي الأجور، وارتفاع الأسعار الذي بلغ حدّاً لا يطاق.
وإن كانت قضية التهرّب الضريبي لزوجة سوناك عندما كان وزيراً للمالية، هي النقطة السوداء الوحيدة التي تلطّخ سجلّه "الحافل" بالإنجازات رغم صغر سنه، فإن الفضائح التي ابتلي بها في الأشهر الثلاثة الماضية تكاد تملأ سجلّه وتطوف. عقوبات ضريبية، وغرامات من الشرطة، وانتهاكات أمنية و"بلطجة"، كما تصفها الصحف البريطانية، واستخدام سلاح الجو الملكي كخدمة توصيل شخصية، وتحرّش ورشاوى وتنمّر.
كل تلك الفضائح في غضون أقل من أربعة أشهر على وصوله إلى الزعامة، ووسط حالة غير مسبوقة من عدم اليقين، والخوف، والعجز، والفقر، وتردّي الخدمات العامة، بما فيها قطاع الصحة الحيوي.
سيكون من الصعب على سوناك الذي نجا من تهمة "الخيانة"، ومن "سخط" الزعيم السابق بوريس جونسون وحلفائه، أن ينجو من سخط ملايين الناخبين العاجزين عن تدبّر أمورهم الحياتية. من هنا تكتسب الفضائح التي شهدتها الحكومة ولا تزال ثقلاً إضافياً، إذ إن التهرّب الضريبي الذي اتُّهم به رئيس الحزب ناظم الزهاوي، وأُقيل على أثره، بلغ 5 ملايين جنيه إسترليني، في الوقت الذي يكافح فيه الملايين لتسديد فواتير الطاقة، وتدفئة منازلهم وإطعام أطفالهم، ويتزامن أيضاً مع رفض سوناك الاستجابة لمطالب العاملين في القطاعات الحيوية لرفع رواتبهم، بما يتناسب مع ارتفاع التضخّم.
كما أن وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، أعادها سوناك إلى منصبها، بعد أن استقالت من حكومة تراس، إثر خرقها القوانين الوزارية والأمنية عبر تسريبها مسودة بيان حكومي حول الهجرة من بريدها الإلكتروني الشخصي. هذا بالإضافة إلى تهم التنمّر التي تلاحق وزير العدل دومينيك راب، والذي استبقاه سوناك في منصبه كوزير ونائب، على الرغم من إخضاعه للتحقيقات في أكثر من 8 شكاوى من موظّفي الخدمة المدنية.
أما الزعيم السابق جونسون، فسيدعى قريباً إلى جلسات استماع متلفزة، حيث تحقق لجنة الامتيازات الخاصة فيما إذا كان قد ضلّل البرلمان وكذب في قضية "حفلات داونينغ ستريت". هذا عدا عن قضية "الرشوة" و"المحسوبية" التي أثيرت بحقّه قبل أسبوعين، عندما سرّبت الصحافة خبراً عن تلقّيه قرضاً مهولاً (800 ألف جنيه إسترليني) عام 2020، بمساعدة ريتشارد شارب قبل أسابيع قليلة على تعيين الأخير مديراً عاماً لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بتزكية من جونسون.
ولا تقتصر أزمة سوناك على الفضائح التي تذكّر بالتسعينيات، ولا على "السخط" الذي يحيل إلى السبعينيات، بل إن أزمته أعمق بكثير، فهو "حمّال الأسيّة" الذي ترمى على كاهله كل إخفاقات حزب المحافظين، منذ وجودهم في السلطة قبل 13 عاماً؛ وهو الذي على الرغم من محاولاته الحثيثة والمصيرية أيضاً للتوفيق بين جميع الأطراف في حزب برلماني منقسم، تبدو الانقسامات في عهده أشدّ فتكاً مما كانت عليه في زمن جونسون أو تراس. وهو أيضاً الذي كان وزيراً للمالية في حكومة تعجّ بالفضائح والمخالفات والانتهاكات، وكان معنياً بما ارتكب من خروقات للقانون، لا بل كان جزءاً منها، ولم يعترض إلا عندما قرّر السعي إلى الزعامة.
وإن كان جونسون هو أول رئيس حكومة بريطانية تُصدر الشرطة بحقّه غرامة، فسوناك هو أول زعيم تصدر الشرطة بحقه بدل الغرامة غرامتين. سينجو سوناك في أفضل الأحوال كسياسي، أو كاقتصادي، أو كرجل أعمال ثري، إلا أن "حزب المحافظين" خسر كل المفاتيح، حتى وإن كان لا يزال يحتفظ بمفاتيح السلطة.