أعلنت بكين، أول من أمس الجمعة، نجاحها في وقف رسمي لإطلاق النار في شمال ميانمار، الدولة المجاورة التي مزقتها الحروب. وأعلنت وزارة الخارجية الصينية أنه جرى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في نزاع ميانمار، بين المجلس العسكري وتحالف المليشيات العرقية المسلحة، بعد سلسلة من الاجتماعات في مدينة كونمينغ، عاصمة مقاطعة يونان، جنوب غربي الصين، المتاخمة لميانمار.
وأوضحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية ماو نينغ أن ممثلين عن الحكومة العسكرية و"جيش تانغ للتحرير الوطني" و"جيش أراكان" و"جيش التحالف الديمقراطي الوطني" شاركوا في المفاوضات يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين. وتعرف هذه الجماعات باسم تحالف "الإخوة الثلاثة".
وحثت بكين الجانبين على ممارسة أقصى درجات ضبط النفس، ومواصلة حل القضايا من خلال الحوار والتشاور، والعمل بشكل مشترك على تعزيز التقدم في عملية السلام في شمال ميانمار. وأكدت أنها ستواصل تقديم الدعم والمساعدة في حدود قدرتها ولعب دور بنّاء في هذا الصدد.
وذكرت وسائل إعلام محلية في ميانمار أن الجانبين اتفقا على وقف فوري لإطلاق النار، وفض اشتباك الأفراد العسكريين، وحل النزاعات والمطالبات ذات الصلة من خلال المفاوضات السلمية، والالتزام بعدم تعريض سلامة الأشخاص على الحدود مع الصين والعاملين في المشاريع الصينية في ميانمار للخطر. وقالت إن اتفاق السلام دخل حيز التنفيذ مساء الخميس الماضي.
وساطة الصين في نزاع ميانمار
ولفتت هذه الوسائل إلى أن التوقيع تم بوساطة مبعوث الصين الخاص للشؤون الآسيوية دينغ شي جون، الذي قاد الجولة الثالثة من المفاوضات بين الجانبين لحلّ أزمة نزاع ميانمار. كما نقلت عن مصدر عسكري في التحالف قوله إن الاتفاق يقضي بعدم المشاركة في هجمات عبر الضربات الجوية أو الأسلحة الثقيلة ضد الأهداف والمصالح الحكومية.
لين تشين: بكين تحتفظ بعلاقات وثيقة مع المجلس العسكري والجماعات العرقية
واعتبر مراقبون أن نجاح الوساطة الصينية في نزاع ميانمار يعكس مدى نفوذ بكين وتأثيرها على جيرانها، وفي الوقت نفسه، خوفها من الإضرار بمصالحها نتيجة استمرار القتال وعدم الاستقرار الأمني والسياسي في دولة متاخمة لحدودها الغربية. لكنهم ربطوا ذلك بمدى صمود اتفاق وقف إطلاق النار، خصوصاً أن الجانبين انتهكا في وقت سابق اتفاقاً مماثلاً، ما أدى إلى انهيار جولتي مفاوضات في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وكانت الصين قد توسطت في الجولة الأولى من المحادثات في أوائل ديسمبر الماضي، ما أسفر عن هدنة استمرت أياماً فقط. ومع اندلاع أعمال العنف مرة أخرى، استولى تحالف المتمردين على عدة مناطق في ولاية شان الحدودية الشمالية في ميانمار. وشمل ذلك منطقة تجارية رئيسية بالقرب من بلدة ميوز، التي يمر عبرها حوالي 90 في المائة من تجارة ميانمار عبر الحدود مع الصين. وانهارت الجولة الثانية من المحادثات في أواخر ديسمبر الماضي.
بعد ذلك، كثفت المليشيات هجومها وسيطرت على لاوكاي، عاصمة منطقة كوكانغ الخاصة ذاتية الحكم في ولاية شان، ما دفع السفارة الصينية إلى إصدار تحذير لمواطنيها. ووفقاً لمؤسسة "آي إس بي"، وهي مؤسسة بحثية غير حكومية في ميانمار، كانت للتحالف سيطرة كاملة على ستة مواقع حيوية لمشاريع صينية، وسيطرة جزئية على سبعة مواقع أخرى حتى نهاية العام الماضي.
حول هذه الخطوة، قال أستاذ الدراسات السياسية في معهد "قوانغ دونغ" لين تشين، في حديث مع "العربي الجديد"، إن دوافع الصين في التوسط لوقف نزاع ميانمار تنطلق من ثلاثة اعتبارات، أولاً: دورها كدولة كبيرة وعضو دائم في مجلس الأمن لإرساء الأمن والسلام الدوليين، ثانياً: حفاظاً على مصالحها الحيوية ومشاريعها التنموية في هذه الدولة، ثالثاً: حماية حدودها وشعبها من الأضرار البشرية والمادية الناجمة عن عمليات القتال.
ولفت لين إلى أن بكين تحتفظ بعلاقات وثيقة مع كل من المجلس العسكري والجماعات العرقية في الشمال، وأنها كانت حذرة لمنع امتداد الصراع، الأمر الذي من شأنه أن يعرّض استثماراتها الكبيرة في البنية التحتية في ميانمار للخطر، خصوصاً أن العديد من هذه المشاريع في ولاية شان، حيث أحرز هناك تحالف "الإخوة الثلاثة" تقدماً كبيراً منذ إطلاق عمليته العسكرية ضد الحكومة في 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
تطلعات لتسوية شاملة في ميانمار
من جهته، أوضح الباحث الصيني في العلاقات الدولية وانغ تشي بينغ، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "الصين تشعر بقلق عميق إزاء التداعيات على الاستقرار والأمن مع استمرار القتال عبر الحدود. لذلك، كان لا بد من تدخّل قوي وفوري لوقف أعمال العنف، وهو دور ينسجم مع سياسة الصين الخارجية التي دأبت على لعب دور بناء في كافة النزاعات، سواء في مناطق حدودية أو حتى في دول صديقة بعيدة كما فعلت في القارة الأفريقية، وكذلك الأمر حين توسطت في حل الخلافات بين المملكة السعودية وإيران".
وشدّد على أن بكين تتطلع لوقف شامل للقتال وتحقيق تسوية سياسية في ميانمار، وأنها ستراقب تنفيذ ما تم الاتفاق عليه للبناء على ذلك والقيام بخطوات أكبر في المستقبل.
وانغ تشي بينغ: الصين ستراقب تطبيق الاتفاق ثم القيام بخطوات أكبر في المستقبل
وخلال الأسبوع الماضي، أصيب ما لا يقل عن خمسة أشخاص في بلدة نانسان الحدودية في مقاطعة يونان بقذائف مدفعية طائشة، ما أثار احتجاجاً رسمياً من بكين، وتعهدت آنذاك بحماية أرواح وممتلكات مواطنيها. وبعد يومين من تلك الحادثة، زار نائب وزير الخارجية الصيني سون وي دونغ ميانمار، حيث ناقش أمن الحدود مع زعيم المجلس العسكري مين أونغ هلاينغ.
ويخوض تحالف الجماعات المسلحة في ميانمار، منذ أكتوبر الماضي، معارك ضارية ضد القوات الحكومية في المناطق القريبة من الحدود الصينية.
وقالت هذه الجماعات إن أحد أهداف هجماتها كان المساعدة في القضاء على مجمعات الاحتيال عبر الإنترنت في شمال ميانمار. وكانت السلطات الصينية قد كثفت أيضاً جهودها لاستهداف عمليات الاحتيال عبر الإنترنت التي تعمل في تلك المناطق، بعد أن وقع عشرات الآلاف من المواطنين الصينيين ضحية لعصابات الاحتيال.
ويُعتقد أن بكين زادت الضغط على المجلس العسكري، الذي اتهمته الجماعات المتمردة بتوفير الحماية لعائلات الجريمة التي تدير عصابات الاحتيال في ميانمار. وقام المجلس العسكري بنقل أكثر من 40 ألف مشتبه به إلى الصين خلال العام الماضي.