في ميثاق الشرف العسكري لا ينبغي لجندي أن يترك رفيق سلاح وراءه في ساحة المعركة. يتجاوز هذا البعد الأخلاقي والإنساني في حق المرء في ميتة كريمة، كيفما اتفقت على ذلك أعراف الشعوب، إلى البعد المعنوي المتعلق بحرب البروباغندا والصورة: ترك جندي يحتضر في الميدان يعني اندحارًا على عجل في خضم المعركة، وروحًا معنويّة وتكافلية ضعيفة في صفوف الجنود، وصورة نصر للقوات المهاجمة.
هذه الصورة ينقلها مراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، الثلاثاء، من داخل الخنادق التي تركها الروس أثناء الهجوم الأوكراني المضاد. تلك الخنادق الحصينة، المحفورة بعناية، الموزعة على عدة خطوط في ساحة القتال، ودونها شبكة فخاخ وحقول ألغام معقدة، صارت مرابض جاهزة للقتال بالنسبة للجنود الأوكرانيين، ومن حولهم جثث ما زالت تتحلل لجنود روس كانوا في المكان، وبقايا ذخيرة، وجوارب متسخة، وأكياس شاي كتب عليها "إلى النصر"، وتمائم من أجل الحظ الجيد.
تلك الخنادق، بحدّ ذاتها، تعدّ إحدى المزايا القليلة من التقدم البطيء الذي حققته القوات الأوكرانية منذ بدء الهجوم المضاد في الرابع من يونيو/ حزيران الماضي؛ ففي الكيلومترات القليلة التي يكسبونها، وفق الصحيفة، يغنم الجنود الأوكرانيون مواقع شديدة التحصين، أمضى الروس شهورًا في حفرها وتذخيرها وتعزيزها وتدريعها.
لكن ذلك معناه، بالنسبة للجنود الأوكرانيين، يتجاوز الوقوف والقتال في المواقع التي قاتل فيها الروس وحسب؛ إذ عليهم أن يفعلوا ذلك ومن حولهم ما بقي من أجسادهم وذخيرتهم وأمتعتهم. يقول أحد الجنود الأوكرانيين للصحيفة، واسمه مكسيم: "الأمر ليس ممتعًا تمامًا". جمع هذا الجندي عدة أشياء "مثيرة للاهتمام" من متعلقات الروس، وفق تعبير الكاتب، ومنها "رصاصات مغطاة بنثارة برّاقة ومثبتة في سلسلة مفاتيح"، يعتقد أن صاحبها كان يحملها كتعويذة.
يمضي الجندي ذاته مستطردًا: "هذه أرضنا، ولكن لا يريحني أن أكون هنا (في خنادق الروس)... لا أشعر أنني في بيتي".
تهاجم القوات الأوكرانية اليوم في ثلاثة محاور على طول الجبهة، لكن التقدم الأقصى الذي حققته كان في الجنوب، حيث شكّلت ما يشبه نتوءًا بمساحة خمسة أميال في الخطوط الدفاعية الروسية. الهدف هو الوصول إلى بحر أزوف، الذي بات يبعد الآن نحو 88 كيلومتراً، تمتد على رقعة واسعة من الحقول المفتوحة التي لا توفّر الكثير من الغطاء. إذا بلغوا الهدف، فذلك معناه، وفق الصحيفة، أنهم سيقسمون الجنوب المحتل من قبل الروس إلى نطاقين، ويقطعون بذلك الجسر البري الرابط بين روسيا وشبه جزيرة القرم التي ضمّتها في 2014، وسيقلّصون بشكل كبير مقدرة روسيا على إعادة إمداد قواتها إلى أقصى الغرب.
ومع تقدّمهم، استولى الأوكرانيون على خطوط الخنادق الروسية والمخابئ ومواقع إطلاق النار في المباني المهجورة؛ لكن تحت القصف المدفعي المستمر، لم يكن لهم سوى القليل من الوقت لإزالة مخلّفات القوات الغازية.
هذا ما كان عليه الحال في قرية نوفوداريفكا، الواقعة في سهول زابوريجيا، حيث تجوّل مراسل "نيويورك تايمز". هناك، وجد الجنود الأوكرانيون جثث 7 من رفاقهم قضوا في الأيام الأولى للحرب بينما كانوا يدافعون ضد الهجوم الروسي في أقصى زخمه. يقول ملازم أول في الجيش الأوكراني، عرّفته الصحيفة باسم فولودومير، إنهم ظلّوا يطلقون الطائرات المسيّرة للتأكد من أن الروس لم يحرّكوا الجثث، لكنهم استعادوها مجرّد هياكل عظمية. أما بالنسبة للقتلى الروس، فقد أخرج الجنود الأوكرانيون أولئك "الذين يمكن إخراجهم من دون مخاطرة"، والباقون طمروا تحت أكوام من التراب، في محاولة للسيطرة على الرائحة الكريهة.
ومع ذلك، يستدرك مراسل الصحيفة، لا تزال رائحة العفونة تفوح في الخنادق، وأسراب الذباب تملأ المكان.
في مكان آخر، حيث أحد المنازل المهجورة التي كمنت فيها القوات الروسية، كشط بعض الجنود أسماءهم وعناوين مدنهم في الجدران الجصية: فلاديكفكاز، الواقعة على سفوح القوقاز في أقصى الجنوب الروسي، وبريموري، الواقعة على ساحل المحيط الهادئ، على مقربة من اليابان. دُفع هذان الجنديّان، القادمان من الشرق الآسيوي في روسيا، وعلى الأغلب من عرقيات غير روسية، بعيدًا عن الديار، إلى أقصى الغرب، للقتال.
وثمة تذكارات من مناطق أشد نأيًا. في أحد الخنادق يعرض جندي أوكراني لمراسل الصحيفة زجاجة من عصير التوت المصنوع في ياقوتيا، وهي منطقة في شمال سيبيريا، وكيس شاي كتب عليه "إلى النصر". يعقّب الجندي، واسمه ماكسيم، للصحيفة، بأن صاحبها "ربما لم يكن لديه وقت ليشربه".
يقول الجنود الذين قابلتهم الصحيفة إنّ التقدم البطيء كان متوقّعًا، نظرًا لحقول الألغام، والخنادق، والحقول المفتوحة. يضيف جنديّ آخر، عرّف نفسه باسم الرقيب إيغور، إنّ وحدته كانت تزحف إلى الأمام إلى منطقة الأمان النسبي داخل الأشجار المتوزعة بين خطوط القتال، ثم تهاجم الخنادق الروسية، عبر اندفاعات محدودة لعشرات أو مئات الأمتار في كل مرة.
يضيف الجندي ذاته، وهو من لواء الدفاع الأرضي 110 الذي يقاتل في الجنوب منذ أكثر من عام بخلاف الوحدات الجديدة التي زجّ بها خصّيصًا للهجوم المضاد، إن الوقت يجب أن يمضي ليتقن الجنود الأوكرانيون المدرّبون على يد الحلفاء الغربيين القتال في الأراضي الزراعية المفتوحة.
ويمضي شارحًا أن الجنود المنتشرين في المنطقة يتعلمون كيف يضبطون آذانهم بدقة لسماع أزيز القذائف القادمة وتمييز ما إذا كانت ستسقط بالقرب منهم أم لا: "التدريب في الخارج ليس مثل القتال الحقيقي.. إنهم يكتسبون خبرة قتالية الآن"، وفق تعبيره.
برغم ذلك، يخلص الرقيب إيغور إلى القول إن التقدم البطيء يظلّ مفضّلًا على الهجوم الشامل: "نحن بحاجة إلى التسلل للأمام شيئًا فشيئًا، عبر قوات المشاة.. ثم قتالهم، ثم الكمون في الحفر مرة أخرى".