استمع إلى الملخص
- العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا قد تتعرض لتحديات كبيرة مع عودة ترامب، الذي يروج لشعار "أميركا أولاً" ويهدد بفرض ضرائب جديدة على السلع الأوروبية، مما يثير قلق الشركات الأوروبية.
- التوترات السياسية في أوروبا قد تتفاقم مع عودة ترامب، حيث يمكن أن يستغل الاختلافات بين الدول الأوروبية لتعزيز نفوذه، خاصة في ظل الحرب في أوكرانيا وتراجع الدعم الأميركي المحتمل.
في أكثر من مناسبة كرر رئيس الحكومة البلجيكية، ألكسندر دي كرو، اختصار عواقب احتمالية عودة المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بأنه "سيتعين على أوروبا أن تكون حقاً بمفردها". وشدد دي كرو في خطاب له أمام البرلمان الأوروبي بداية العام الحالي على أنه ينبغي للأوروبيين ألّا يخشوا ذلك الاحتمال، بل "يجب عليهم أن يتبنوه من خلال وضع أوروبا على أساس أكثر صلابة".
تبدو أوروبا اليوم متعايشة مع احتمالية عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في انتخابات الثلاثاء القادم. ففي المرة السابقة التي وصل فيها الرجل إلى الرئاسة في 2016 أصيبت أغلبية القارة بصدمة، بعد أن عاشت لعقود على وقع مسلمات ثبات ورسوخ علاقة الحليفين التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945).
فوز ترامب على كامالا هاريس، استناداً إلى فكرة أن لا شيء مستحيلاً في السياسة، سيدخل الطرفين في معادلة لم تتغير عن شعار "أميركا أولاً".
أوروبا "العدو" لأميركا بالنسبة إلى ترامب
بالنسبة لأوروبا، فإن درس تجربة ما قبل ثماني سنوات يتلخص في أن القارة العجوز عليها التعايش مع ترامب باعتباره "سياسياً غير تقليدي". صحيح أن الاتحاد الأوروبي بوصفهِ مؤسسة لا يصرح عن تفضيله للمرشحة الديمقراطية هاريس على حساب ترامب، إلا أنه عملياً، مسنوداً برأي عام في بعض دوله يفضلها، مع استعداد لإمكانية التعاطي مع عودة الرجل الذي يجد إعجاباً عند من يشبهه من القوميين المحافظين في القارة، مثل رئيس حكومة المجر فيكتور أوربان ورئيسة حكومة إيطاليا جورجيا ميلوني، وغيرهما.
ساسة بروكسل (عاصمة مقرات الاتحاد الأوروبي) يدركون أن نظرة ترامب إلى قارتهم لم تتغير كثيراً من منطلق شعار "أميركا أولاً". ووصفه القارة ذات يوم بـ"العدو" الذي يستغل الولايات المتحدة ومصالحها التجارية، يعززه تصريح ترامب في حملاته الانتخابية الأخيرة بأن أوروبا تشكل "صيناً مصغرة".
ونقلت وسائل الإعلام الأوروبية عن الرجل قوله إن الأوروبيين "لا يشترون سياراتنا، ولا يشترون منتجاتنا الزراعية، ولا يشترون أي شيء". وشدد على أن واشنطن لديها عجز تجاري مع الاتحاد الأوروبي بقيمة 312 مليار دولار.
إذاً، هي عودة تطرح تحديات وعثرات في طريق علاقة حليفي ضفتي الأطلسي، وبما يضعهما على شفا حرب تجارية. فليس أقل من 20% ضريبة سيفرضها ترامب على كل السلع الأجنبية المتدفقة إلى أميركا، وقد تصل إلى 60% بالنسبة للسلع القادمة من الصين. وبلا شك ذلك أمر يقلق الأوروبيين الذين يبدون أكثر هدوءاً من صدمة ولاية الرجل السابقة. فوعوده تلك ستشكل ضربة للشركات الأوروبية التي تعتبر السوق الأميركية الأكبر لصادراتها، ما يرخي بظلال قاتمة على نجاتها. وينسحب ذلك مثلاً على الشركات الألمانية التي يعتقد نصفها أن فوز ترامب سيضر بأعمالها.
عملياً، جربت أوروبا فرض ترامب في 2018 تعريفات جمركية عقابية على الصلب والألمنيوم الأوروبيين. والسياسة التجارية هي واحدة من المجالات التي تفكر فيها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في علاقة معسكرها الأوروبي بحليف أميركي أكثر شراسة في تطبيق وعود انتخابية سابقة وحالية. ويراهن الأوروبيون، في السيناريو المرتبط بعودة ترامب، على خروجهم من الارتباك السابق قبل ثماني سنوات لفرض مفاوضات شاقة على الرجل الذي يحب الصفقات.
إرهاق الحرب... أحصنة طروادة ترامبية في القارة
بالتأكيد أن ترامب وفريقه يعرفون أوروبا جيداً، وهم قادرون على اللعب على وتر الاختلافات بين دول القارة. ومع أن أوروبا بدت إثر اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير/شباط 2022 أكثر تماسكاً، إلا أن المعسكر الأوروبي القومي المحافظ يمكن أن يتحول إلى أحصنة طروادة ترامبية. فإرهاق الحرب في أوكرانيا، والموقف الأقل تشدداً من موسكو عند تلك القوى، من الأمور التي تؤسس لأرضية مشتركة بينها وبين ترامب، خاصة في وعوده المقلقة لقوى أوروبية أخرى، من يمين الوسط ويسار الوسط التقليديين، بشأن الحرب، وليس أقلهم حماسة له هو المجري أوربان، الذي يعد ترامب رجل صناعة السلام مع موسكو، وغيره من أقطاب أوروبية أخرى على أبواب انتخابات في 2025.
عموماً، فإن أجنحة التشدد القومي سيروق لها أيضاً حصول أشرعتها على رياح ترامبية، كما حصلت عليها في 2016، وتقديم أنفسهم محاورين ومفاوضين جيدين لإدارة أميركية في عهدة ترامب.
في ولاية الرجل السابقة، تخلخلت بعض المسلمات الراسخة في علاقة القارة بالحليف الأميركي. فقد شهدت تهديده الصريح بالخروج من حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعدم الدفاع عن دوله، ما لم تنفق المال الكافي على الجيوش والدفاع في دولها. وبالنسبة لأوروبا التي تعيش في دوامة غياب حسم حرب أوكرانيا فإن عودة ترامب يقلقها من زاوية وعوده بإنهاء الحرب والمواجهة مع روسيا، أقله من خلال فرض آلية سلام بالضغوط على الأوروبيين لتحمل الجزء الأكبر من العبء المالي والعسكري، وفرض تراجع عن الدعم الأميركي السخي الذي انتهجه جو بايدن مع كييف.
هؤلاء لا يفكرون بعواقب ضغوط كهذه على الرأي العام في دولهم فحسب، الممتعض بعضه من مواصلة دفع فاتورة الحرب الأوكرانية، بل بانعكاسات مثل تلك السياسات على أمن قارتهم أيضاً، خاصة إذا ترجم ترامب المس بأسس العلاقة مع حلف الناتو والدفاع عن دوله.
مع ذلك، بالنسبة لمفضلي كامالا هاريس الأوروبيين فإن التحدي سيظل قائماً في العلاقة عبر الأطلسي. فهاريس ربما تواصل سياسة اقتصادية حمائية انتهجها بايدن، في قانون خفض التضخم وجذب الشركات الخضراء مع مزايا ضريبية كبيرة ودعم حكومي بالمليارات، بما يؤثر على المنتجين الأوروبيين. بمعنى آخر فإن تفضيل المصالح الأميركية لن يكون بعيداً عن هاريس، التي تنظر أيضاً، مثل ترامب، إلى الصين بوصفها التهديد الأكبر.
وفي المجمل، فإن النظرة الأميركية للمصالح الوطنية، بغض النظر عمن يحكم البيت الأبيض، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، دفعت القارة العجوز منذ سنوات إلى التفكير العميق بكيفية التعامل مع التحديات، وبصورة تجعلهم أكثر استقلالية في الأمن والدفاع عن أنفسهم. وليس بعيداً عن ذلك قرع البلجيكي دي كرو، وكذلك الفرنسي إيمانويل ماكرون ومستشارة ألمانيا السابقة، أنغيلا ميركل، وغيرهم من ساسة القارة العجوز، أجراس الإنذار مبكراً، لكي تضع القارة كل الاحتمالات على طاولة مستقبل مصالحها.