يثير السلوك الإسرائيلي مخاوف من تخطيط الاحتلال لشنّ حرب مباغتة على قطاع غزة، على غرار العدوان في شتاء 2012. ومما يسوّغ هذه المخاوف، حقيقة أن إسرائيل حرصت على بعث رسائل متضاربة بشأن نواياها الحقيقية تجاه القطاع. ففي حين قال وزير الأمن الداخلي جلعاد أردان في مقابلة مع صحيفة "جيروزاليم بوست"، أمس الخميس، إنّ "إسرائيل تحثّ الخطى في التحضير لحملة شاملة على قطاع غزة"، ادعى وزيرا المالية موشيه كحلون، والبناء يوآف غالانات، العضوان في المجلس الوزاري المصغّر لشؤون الأمن، في مقابلتين مع الإذاعة الرسمية "كان"، أنّ "إسرائيل غير معنية بمواجهة شاملة مع قطاع غزة".
ليس هذا فحسب، بل إنّ تأكيد دولة الاحتلال أنّ "حماس" لم تقف وراء عملية قنص الضابط الإسرائيلي الأربعاء الماضي، قد يكون مرتبطاً برغبة إسرائيل في دفع الحركة للاسترخاء وعدم اتخاذ الاحتياطات الأمنية اللازمة.
كل هذه "المناورات" الإسرائيلية قد تهدف إلى إيصال رسالة مضلّلة مفادها بأنّ التصعيد الحالي قد وصل إلى نهايته، بهدف توفير مسوّغات تبرّر عدم تدخّل الأطراف الإقليمية والدولية للتوسّط لتطويق الأحداث، على غرار جولات التصعيد الأخيرة.
وأدّى قصف إسرائيلي الأربعاء على مواقع في غزة، رداً على إطلاق نار من القطاع بحسب مزاعم إسرائيلية، إلى استشهاد ثلاثة عناصر من "كتائب عز الدين القسام"، والتي أعلنت أمس الخميس، رفع الجهوزية للدرجة القصوى، واستنفار جميع جنودها وقواتها العاملة في كل مكان. ويعني رفع التأهّب أنّ قطاع غزة دخل مرحلة جديدة وربما خطيرة لجهة العدوان، حيث إن تقديرات المقاومة تشير إلى محاولة الاحتلال استدراجها لعدوان شامل وقاسٍ.
من ناحية ثانية، فإنّ عدم قيام إسرائيل بإغلاق المعابر التجارية رداً على التصعيد الأخير، يوسّع من دائرة الشكوك إزاء النوايا الإسرائيلية، مع العلم أنّ وزير الأمن الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، تعهّد بأن يتم ربط فتح المعابر التجارية بحالة الهدوء على جانبي الحدود مع القطاع.
وإذا كانت إسرائيل حقاً معنية بمباغتة غزة بحرب مفاجئة، فإنها معنية بإرسال الرسائل المطمئنة التي تؤدي إلى عدم اتخاذ المقاومة الإجراءات الاحتياطية، الأمر الذي يمكّن جيش الاحتلال من ضرب أكبر عدد من الأهداف، وتحديداً عند الشروع في شنّ الحرب. وهذا ما فعلته إسرائيل عشية الحرب التي شنتها على قطاع غزة في شتاء 2012. فعلى الرغم من أنّها شنّت الحرب بعد أن قامت المقاومة في حينه بقصف الكثير من المواقع داخل الأراضي المحتلة، إلا أنّ حكومة بنيامين نتنياهو حرصت في حينه على إرسال رسائل تضليلية مطمئنة؛ تمثّلت في عدم إغلاق المعابر التجارية والتظاهر وكأنها غير معنية بالتصعيد. وفي صباح اليوم الذي شرعت فيه إسرائيل بالحرب، واغتالت في مسائه قائد كتائب القسام، أحمد الجعبري، توجّه نتنياهو ووزير الأمن في ذلك الوقت إيهود باراك لهضبة الجولان في جولة تفقدية.
إلى جانب ذلك، فإنّ البيئة الداخلية الإسرائيلية باتت تضغط بشكل أكبر لشنّ حرب على قطاع غزة. وهذه الدعوات لم تعد مقتصرة على نخب اليمين، بل إنّ نخباً ذات توجهات "يسارية" تكثّف من ضغوطها أيضاً على نتنياهو لشنّ الحرب، بعد أن تحوّلت غزة إلى مادة للتجاذبات الداخلية بين الحكومة والمعارضة في تل أبيب. زعيم حزب العمل الإسرائيلي، آفي غباي، هاجم نتنياهو لعدم إقدامه على توفير ظروف تضمن الهدوء على الحدود. يضاف إلى ذلك أن نخباً أمنية محسوبة على الحزب نفسه بدأت توظّف تجربتها العسكرية في المحاججة بأنّ عملية واسعة على قطاع غزة ليست ممكنة فقط، بل باتت أمر ملحاً، كما زعم الجنرال عاموس يادلين، القائد الأسبق لشعبة الاستخبارات العسكرية، والجنرال يورام ليفين، الذي سبق له أن شغل منصب نائب رئيس جهاز الموساد.
وقد يكون إعلان "كتائب القسام" درجة الاستنفار القصوى مرتبطاً أساساً بعِبَر 2012، وبناء على تصورها لمنطلقات التفكير الاستراتيجي والعمليّاتي الإسرائيلي، وإدراكها لدلالات الجدل الإسرائيلي الداخلي.
لكن على الرغم من كل ما تقدّم، فإن العوامل التي تقلّص من دافعية شنّ حرب على غزة حالياً ما زالت قائمة. فإسرائيل تعي أنّه ليس بوسعها تحقيق أي هدف استراتيجي من خلال شنّ حرب على القطاع. فنظراً لعدم وجود طرف ثالث يمكن أن يتولّى زمام الأمور في حال إسقاط حكم "حماس"، فإنّ هذا يعني أنّ تل أبيب ستتورط بالبقاء في غزة لأمد بعيد، وهذا سيفضي إلى دفع أثمان سياسية وأمنية واقتصادية باهظة.
وفي حال انسحبت إسرائيل من القطاع في ظلّ عدم وجود عنوان سلطوي يمكن أن يتولى زمام الأمور، فإنّ هذا يعني سيادة حالة من الفوضى تفضي إلى تهديد البيئة الأمنية في الجنوب بشكل كبير.