يبدو أن حالة الانسداد السياسي جعلت المعارضين للرئيس التونسي قيس سعيّد يفكرون في مختلف السيناريوهات التي يمكن أن تسمح بتغيير الأوضاع في البلاد، سواء قبل موعد إجراء الاستفتاء في 25 يوليو/ تموز الحالي أو بعده.
في هذا السياق جاء تصريح رئيس "حركة النهضة" راشد الغنوشي، المهدد بالاعتقال، لوكالة "رويترز"، الجمعة الماضي، الذي توقع فيه احتمال تكرار ما حدث في سريلانكا، قائلاً إنّ "تفاقم المشاكل الاقتصادية وانشغال الرئيس عنها قد يلقي بتونس في متاهات انفجار اجتماعي، وبالتالي يصبح السيناريو السريلانكي غير بعيد عن تونس".
هل مثل هذه الفرضية واردة حقاً أم أنها مجرد تلويح بتصعيد سياسي محتمل، وتوجيه رسالة غير مضمونة الوصول إلى رئيس الدولة والأطراف الدولية ذات المصالح الحيوية في تونس؟
الاستفتاء سيحدث القطيعة مع المرحلة السابقة بسياساتها ورموزها
على الرغم من الانتقادات الشكلية أو الجوهرية التي وُجّهت إلى دستور الرئيس والتعديلات التي أضافها بعد تجاوز الآجال القانونية، استمرت الاستعدادات الرسمية لإجراء الاستفتاء في موعده بنسق عادي. فالسلطة تبدو أشبه بالقطار السريع الذي يتجه نحو المحطة الأخيرة، يقوده سائق غير عابئ بمختلف النداءات والأضواء الحمراء التي تحذره من احتمال حصول كارثة في الطريق.
لا أحد يعرف إلى أين تسير البلاد، وما الذي سيترتب على تمرير مشروع الدستور الرئاسي، على الرغم من شعور الكثير من التونسيين بكونهم محشورين داخل قطار تم تحويل وجهته نحو مسار مجهول وغير مضمون.
حتى الذين انخرطوا في هذا المسار الرئاسي، لا يستطيع الكثير منهم توضيح طبيعته وما تخفيه المحطات التالية. هم متأكدون من شيء واحد، وهو أن الاستفتاء سيحدث القطيعة مع المرحلة السابقة بسياساتها ورموزها، وسيقطع الطريق نهائياً أمام الأطراف الحزبية التي كانت تحكم أو التي كانت تعارض. أما بعد تحقيق هذا الهدف فلا أحد يعلم بما يخفيه المستقبل.
مقارنة تونس بسريلانكا
موضوعياً تصعب مقارنة الحالة التونسية بالحالة في سريلانكا. فبين البلدين اختلافات كبرى على أكثر من صعيد. لهذا من غير الوارد أن يزحف الشعب التونسي إلى القصر الرئاسي للمطالبة باستقالة قيس سعيّد، خصوصاً في ظل السياق الراهن.
فشروط ذلك غير متوفرة حالياً. الرجل ليس متورطاً في قضايا فساد مثلما هو الحال بالنسبة لغيره. كما أنه لا يزال يتمتع بحاضنة شعبية وإن تقلص حجمها خلال الفترة الأخيرة، وقد يتأكد ذلك بعد الاطلاع على عدد المواطنين الذين سيشاركون في الاستفتاء، خصوصاً الذين سيصوتون بـ"لا" على وثيقة الدستور الجديد.
أما الرهان على الاحتقان الاجتماعي كدافع نحو التمرد الشعبي، فاحتمال لا يزال مستبعداً على الرغم من حجم الأزمة الاقتصادية الخانقة. هناك قرار دولي يتمثل في تجنيب تونس السقوط في الفوضى، وهو ما يفسر تواتر المساعدات المالية من أطراف عديدة، مؤسسات وحكومات، حتى لا يحصل الاختناق الاقتصادي الكامل، وحتى يبقى المجال مفتوحاً أمام محاولات الإنقاذ وتبلور البديل السياسي الناضج.
موقف الرأي العام في تونس من المعارضة مختلف تماماً عن موقف السريلانكيين من أحزابهم
كما أن موقف الرأي العام في تونس من المعارضة مختلف تماماً عن موقف السريلانكيين من أحزابهم، وموازين القوى مختلفة تماماً بين البلدين. هنا توجد أزمة ثقة عميقة وممتدة بين التونسيين وطبقتهم السياسية بجميع مكوناتها، بسبب حصاد عشر سنوات مضت من التعثر والارتجال، وهي تركة ثقيلة جعلت أصوات المعارضة غير مسموعة من قبل الشارع العريض.
وهذا عامل حاسم ومحدد في قراءة الوضع التونسي الراهن. وعلى الرغم من جرأة الأحزاب في نقدها لرئيس الدولة ودعوة بعضها إلى إزاحة قيس سعيد عن الحكم، إلا أن أصواتها غير مسموعة من قبل الأغلبية الصامتة من المواطنين.
لم تدرك النخبة السياسية أن البلد في حالة انسداد فعلي، وهي حالة تصيب بعض المجتمعات عندما تفقد الثقة في نفسها وفي مختلف فعالياتها القيادية، سياسية كانت أو فكرية واجتماعية.
في مثل هذه المناخات يشعر عدد واسع من المواطنين بفقدان الحماسة، في ظل اقتناعهم بأنهم لن يخسروا شيئاً إذا انسحبوا من المجال السياسي، مكتفين بالمشاهدة ومراقبة الأحداث عن بعد. ويهيمن عليهم اعتقاد بأن الانسياق وراء حاكم مغامر يمكن أن ينجح في تغيير المشهد، وقد يفتح باباً أو حتى نافذة تطل على سيناريوهات أفضل.
تونس اليوم محشورة في هذه الزاوية الحادة. ولن تتمكن من تحسين شروط الحركة من أجل التغيير إلا عندما يتم تشريح الحالة الراهنة تشريحاً عميقاً يتجاوز المظاهر الخادعة، ويتم إخضاع الذات للنقد الشديد.
على النخبة السياسية خصوصاً أن تتحمل مسؤوليتها الكاملة في فشل المرحلة السابقة، وأن تعيد النظر في الأساسيات ولا تتوقف فقط عند الأعراض والمظاهر السطحية، فما خفي أعمق وأخطر.