تخلى الرئيس التونسي قيس سعيد، أخيراً، عن جميع البنود المؤسسة للسلطة المحلية في دستور 2014 (11 فصلاً) وعوضها بفصل يتيم في دستوره الجديد يحاكي دستور 1959 (دستور ما قبل الثورة)، ما دفع الخبراء للحديث عن بوادر نهاية تجربة الحكم المحلي والتدبير وعودة الدولة المركزية الراعية.
ومضت 4 سنوات على أول انتخابات بلدية في مايو/ أيار 2018 أفرزت 7212 مستشاراً بلدياً، ممثلاً للشعب في مختلف جهات البلاد، بإشراف هيئة الانتخابات المستقلة وفي إطار دستور 2014، وصفها المراقبون وغالبية المشاركين بـ"النزيهة والحرة والشفافة"، ومقارنة بآخر انتخابات قبل ثورة 2011، التي كانت منظمة بإشراف وزارة الداخلية زمن حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي في 2010، وفاز فيها بالأغلبية الساحقة ممثلو حزب النظام الحاكم (التجمع الدستوري الديمقراطي) وممثلون عن معارضة كانت توصف بـ"الصورية".
وشرعت تونس، رغم العثرات، في تركيز أركان السلطة المحلية في نحو 350 بلدية منتخبة، بحسب ما تنظمه أحكام دستور 2014 ومجلة الجماعات المحلية، التي وصفها الخبراء بـ"النقلة" من الدولة المركزية الراعية التي بناها الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، نحو الدولة اللامركزية الديمقراطية المبنية على الحكم المحلي والتدبير الحر وسلطة الجهات والمحليات المنتخبة مباشرة من الشعب.
وشهدت بلديات عدة صعوبات في عملها بسبب افتقارها إلى الموارد والمقرات فيما ذهبت مجالس بلدية منتخبة إلى حلها وإعادة الانتخابات فيها بسبب الخلافات الحزبية بين أعضائها، وعلى الرغم من فوز حزب النهضة بغالبية المقاعد في عديد من البلديات، فإن صعود المستقلين بشكل غير مسبوق كان لافتاً في هذه الانتخابات.
ويتضمن مشروع الدستور الجديد الذي تم التصويت عليه في 25 يوليو/ تموز الماضي فصلاً وحيداً في باب الجماعات المحلية والجهويّة الذي استبدل باب السلطة المحلية، وينص البند 133 "تمــارس المجالس البلدية والمجالس الجهوية ومجالس الأقاليم والهياكل التي يمنحها القانون صفة الجماعة المحليّة والمصالح المحليّة والجهويّة حسب ما يضبطه القانون".
وتذهب قراءات خبراء القانون إلى أن حذف سعيد لبنود السلطة المحلية وإعادة إحياء صياغة دستور 1959، يحمل بوادر إنهاء تجربة الحكم المحلي والتدبير الحر، باستعادة زمام الحكم المركزي والتأسيس لمشروع تنظيم الحكم القاعدي وفق رؤيته.
سعيّد لم يتحمس للحكم المحلي
وحول هذا التفصيل، قال رئيس الجمعية العربية للعلوم السياسية والقانونية وأستاذ القانون الدستوري، شاكر الحوكي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنه "لا نعرف على وجه التحديد إلى أين يتجه الحكم المحلي في تونس، وما هو مستقبل السلطة المحلية، فبعدما نجحنا في إجراء أول انتخابات بلدية في 2018 كان من المفترض أن نواصل في إرساء بقية مؤسسات الحكم المحلي وهي انتخاب المجلس الجهوي ومجالس الأقاليم ومن ثم انتخاب المجلس الأعلى للجماعات المحلية".
واستدرك الحوكي "إلا أن كل ما نعرفه الآن هو أن ما يسمى بدستور الجمهورية الجديدة قد تجاهل الحكم المحلي ولم يخصص له إلا فصل يتيم يذكرنا بالفصل 71 الذي كان موجوداً في دستور 1959، والذي ينطوي على اعتراف بالتنظيم اللامركزي الذي ضبطه دستور 2014".
وبين خبير القانون الدستوري أن "كل ما نعرفه أيضاً هو أن قيس سعيد لم يعبر يوماً عن حماسه للحكم المحلي، بل إن مشروعه المتعلق بالتنظيم القاعدي يستشف منه وكأنه هو البديل للحكم المحلي".
وتابع "الحقيقة منذ أن دخلنا زمن الارتجال والاعتباط والتخبط مع قيس سعيد، خرجنا كلياً من التدبير العقلاني والتشاركي، ولم يبق إلا انتظار ما ستؤول إليه الأمور بعد أن يقرر حضرة جنابه". وقال "المؤكد أن الأنظار ستتركز في الأشهر المقبلة على الانتخابات التشريعية، وبعد ذلك إذا استمر الانقلاب، سيجد نفسه مضطراً لإبراز حقيقة موقفه من الحكم المحلي والتنظيم اللامركزي".
صياغة دستور 1959
من جهتها، قالت أستاذة القانون الدستوري، هناء بن عبدة، في تعليق، لـ"العربي الجديد"، إن "الفصل 133 من مشروع الدستور الجديد يتحدث عن مجالس بلدية ومحلية وأقاليم تسير الجماعات المحلية، ما يعني أنه لم يقع التخلي عن منوال البلديات والجهات بل تم تأكيد ذلك، وما تغير في مشروع هذا الدستور على عكس دستور 2014 هو الاستغناء على ذكر مبادئ عمل مصالح السلطة المحلية والبلديات، حيث لم يتحدث عن كيفية انتخاب هذه المجالس وتنظيم عملها".
وبينت خبيرة القانون الدستوري أنه "تم التخلي عن ذكر تفاصيل العمل المحلي في الدستور ولكن تبقى مجلة الجماعات المحلية سارية المفعول"، مشيرة إلى أن "الجماعات المحلية هي ذوات قانون عام وبالضرورة لديها شخصية قانونية مستقلة مالية وإدارية".
وقالت بن عبدة "ربما قد يعاد لاحقاً النظر في الرقابة البعدية واللاحقة، وإعادة إشراف المحافظ الذي حذف في دستور 2014، ولكن إلى حد الآن مشروع الدستور أكد أن الجماعات المحلية ستسهر على الشؤون المحلية".
وبينت أنه في مشروع الدستور الجديد "رئيس الجمهورية أعاد تقريباً صياغة دستور 1959 في فصل وحيد، والفكرة أن الرئيس سعيد ليس مع التفاصيل الموجودة في دستور 2014 لأن هناك من انتقد فكرة التدبير الحر بسبب تجاوز بعض رؤساء البلديات وتوسعهم في استخدام مبدأ التدبير الحر وهو ما لاحظناه في كثير من الحالات، ما أعطى انطباعاً سيئاً عن التدبير الحر".
بداية الصدام
وتعيش البلديات المنتخبة خلافات مع السلطة التنفيذية حتى قبل 25 يوليو، تطورت إلى عملية لي ذراع في عدد من البلديات بين المحافظين ورؤساء البلديات، خصوصاً في العاصمة تونس وبنزرت وبن عروس.
وبرز الصدام بين سعيد ورؤساء البلديات منذ بداية ولايته، ففي 2020 أشعلت تصريحات رئيس بلدية الكرم، فتحي العيوني، المعروف بقربه من حزب النهضة، فتيل الخلاف بعدما "اعتبر دخول رئيس الجمهورية للكرم دون استشارته خرقاً واضحاً للدستور"، فجاء رد سعيد بزيارات متكررة إلى عدد من مساجد الكرم في سياق صلاة الجمعة.
وتعيش بلدية العاصمة أكبر بلديات البلاد خلافاً متصاعداً بين رئيستها سعاد عبد الرحيم (حزب النهضة) ومحافظ العاصمة كمال الفقي (المقرب من سعيد وأحد قادة حملته الرئاسية). وعمد الفقي إلى إلغاء عدد من القرارات التي اتخذتها عبد الرحيم، منها هدم ومنع جولان ورفع السيارات.
وشدد الفقي في تصريح صحافي ''بالنسبة لي غير مقبول بأن تصبح السلطة المحلية عائقاً أمام السلطة الجهوية وبالتالي تُصبح عائقاً أمام المركزية وهذا يعتبر ضرباً لوحدة الدولة واسمه تعطيل للمصلحة العامة واسمه تخريب أعمال تنفيذ مشاريع تنموية تهم المواطنين وهم طرف فيها''.
واعتبر القيادي في ائتلاف الكرامة منذر بن عطية، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "كلام قيس سعيد كله تناقضات ويقول ما لا يفعل ويفعل عكس ما يقول، هو تحدث كثيرا عن الحكم المحلي وسيادة الشعب المزعومة وتقرير كل جهة لمصيرها وكله كلام نظري".
وتابع أنه "بالازدواجية ذاتها ادعى تبنيه الحكم المحلي في حين أنه يكرس المركزية في أبشع صورها فهو يعين الحكومة والوالي والمعتمد والعمدة ويتحرش بالبلديات التي ألحقها بوزارة الداخلية ليبسط نفوذه على أنفاس الوطن ويطمس كل منجزات دستور الثورة من فصل بين السلط وضمان التوازن بينها وتكريس الحكم المحلي الذي ورد فيه 11 فصلاً بالتمام والكمال".
وشدد بن عطية قائلاً "سعيد لا يؤمن بتقاسم السلط، لأنه يرى نفسه ممثل الإله في الأرض وعليه أن يمسك بكل السلط وعلينا ألا نشرك في حكمه أحداً"، بحسب تعبيره.
وفي 26 يوليو الماضي، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، قبول مشروع الدّستور الجديد بعد نيله ثقة المصوّتين في الاستفتاء عليه بنسبة 94.60 بالمئة.
ورفضت عدة قوى سياسية تونسية نتائج الاستفتاء على غرار "جبهة الخلاص الوطني " وحركة النهضة "والحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء (ائتلاف لخمسة أحزاب يسارية) " الدستور الجديد على اعتبار أن "75 بالمائة من الشعب التونسي لم يشاركوا في الاستفتاء عليه".
وفي 28 يوليو الماضي، قال رئيس هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر، إن مليونين و630 ألفاً و94 ناخباً شاركوا في التصويت على مشروع الدستور من أصل 9 ملايين و278 ألفاً و541 ناخب (30.5 بالمائة من المسجلين).
ويمثل الاستفتاء حلقة في سلسلة إجراءات استثنائية بدأ سعيّد فرضها في 25 يوليو 2021، منها إقالة الحكومة وتعيين أخرى، وحلّ مجلس القضاء والبرلمان، وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية، وتبكير الانتخابات البرلمانية إلى 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل.