تجد قارة أوروبا نفسها حائرة في بحثها عن أجوبة عن معضلة الاستقلالية الدفاعية، في مواجهة تحديات مرتبطة بالحرب في أوكرانيا من جهة، وفي الأخرى علاقتها بحليفها الأميركي، إذا ما طبق دونالد ترامب في حال عودته إلى البيت الأبيض تهديده بعدم الدفاع عن دول القارة التي لا تنفق على الدفاع 2 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي.
وخلال الأسابيع الأخيرة ارتفعت حرارة سجال إنشاء ما يُسمى "مظلة ردع نووي" أوروبي. إذ يبدو أن التسلح التقليدي غير كافٍ، برغم ارتفاع وتيرته إلى حدّ أن 18 دولة من الـ31 دولة في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وأغلبها في أوروبا، تجاوز صرفها على التسلح والدفاع نسبة الـ2 في المائة من ناتجها الإجمالي.
سجال مظلة الردع النووي
ومن اللافت أن فرنسا وألمانيا باتتا محور نقاشات "المظلة النووية". فالمتغير الكبير، أو نقطة التحول في قبول العسكرة الألمانية أن الشارع وبعض السياسيين صاروا أميل حتى إلى قبول الأسلحة النووية. فإلى جانب أن المستشار أولاف شولتز صار يحرص على التقاط صور تفقّده أكبر مصنع أسلحة في البلاد (راينميتال)، الذي رفع عجلة التصنيع إلى مستويات قياسية، فهو أصبح جزءاً من السجال النووي، الذي أعادت طرحه رفيقة شولتز، عضو البرلمان الأوروبي كاتارينا بارلي. وكانت فكرة "البعد الأوروبي للسلاح النووي الفرنسي" قد طرحت من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أثناء زيارته للعاصمة السويدية استوكهولم أواخر يناير/ كانون الثاني الماضي، وتكررت في اللقاءات مع شولتز.
على تلك الخلفية، فجرت بارلي السجال بقولها لصحيفة "تاغ شبيغل" في 13 فبراير/ شباط الحالي، إن "الأسلحة النووية يمكن أن تصبح موضوعاً مشتركاً على الطريق إلى جيش أوروبي مشترك".
فالأسلحة النووية ظلت تشعل الاحتجاجات العنيفة في الشارع الألماني، ومنها انبثقت حركات سلام متعددة وحزب الخضر (غرونن)، وخصوصاً ضد رؤوس أميركا النووية في قواعد ألمانية (تقدَّر اليوم بنحو 20 رأساً). ومع أن بارلي لم تتحدث عن تسلّح ألمانيا بالنووي، وإنما تحت مظلة أوروبية، فإن السجال يعبّر أيضاً عن تغيّر حتى في صفوف الحزب الاجتماعي الديمقراطي، الذي انتهج تاريخياً ما يُسمى "سياسات دفاعية سلمية". فقد لاقت بارلي تأييداً من وزيري خارجية سابقين، مثل سيغمار غابرييل ويوشكا فيشر وشخصيات أخرى رفيعة في الحزب. وعبّر وزير مالية برلين، من الحزب الليبرالي الديمقراطي، كريستيان ليندنر، في مقال بصحيفة "فرانكفورتر ألغيماينه زايتونغ" عن تحمسه لخلق المظلة النووية، معتبراً أن "عروض ماكرون هي لأجل تعاون مختلف، حيث يجب أن نعتبر تصريحات دونالد ترامب الأخيرة بمثابة دعوة للتفكير بشكل أكبر في هذا العنصر من الأمن الأوروبي".
رغم تغير المزاج العام... عقبات تثقب المظلة النووية
وبرغم أن العقيدة النووية الأميركية قامت على حماية المصالح الأميركية والحلفاء، إلا أن تشوش علاقة ضفتي الأطلسي دفعت ماكرون والمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل منذ 2018 إلى إعادة الحسابات والتفكير بحماية القارة ذاتيا.
وباستثناء بريطانيا النووية، التي خرجت من الاتحاد الأوروبي في استفتاء 2016، تبقى باريس الوحيدة في منظومة القارة التي تمتلك حوالى 300 رأس، وهي لا تقارن بنحو 1500 تملكها أميركا من بين حوالى 10 آلاف في مجموع الدول النووية. فالرقم انخفض عالمياً من ترسانة ضخمة ضمّت نحو 60 ألف رأس نووي في 1986 إلى 10 آلاف.
وما يثير الانتباه في سياق تحوّل المواقف الألمانية حيال سباق التسلح والنووية، أن الأمر تغير عند الرأي العام الألماني إلى تأييد بقاء وتحديث انتشار السلاح النووي الأميركي على أرضهم بواقع 52 في المائة. وللمفارقة، فإن نسبة هؤلاء بين سكان ألمانيا الشرقية سابقاً لم تتجاوز 38 في المائة. بينما في 2021 عارض 57 في المائة بقاء الأسلحة النووية الأميركية على أرضهم وأيدها 14 في المائة، بحسب تقرير محطة "آردي" الألمانية.
بالطبع، إن أفكار الرئيس ماكرون ليست جديدة، وقد طرحها في 2020، داعياً الأوروبيين إلى التفاوض لجعل أسلحة بلاده النووية "ذات بعد أوروبي".
وفي زيارته لاستوكهولم، أضاف ماكرون أن "قواتنا النووية تلعب دوراً رادعاً، خصوصاً في أوروبا. فهي تعمل على تعزيز أمن أوروبا، وهي في هذا الصدد تتمتع ببعد أوروبي حقيقي"، مشدداً على أن "التزامنا بأمنهم (الأوروبيون) والدفاع عنهم هو التعبير الطبيعي عن تضامننا الوثيق. دعونا نوضح الأمر: المصالح الحيوية لفرنسا لها بعد أوروبي".
ومع أن التصريحات تلقى بالطبع انتقادات شديدة من السياسية اليمينية مارين لوبين، باعتبارها تمسّ بالعقيدة النووية وسيادة فرنسا، كما نقلت صحيفة "لوفيغارو"، إلا أن تصريحاته بدأت تحرك الحالة الأوروبية الحائرة في كيفية تعزيز ردعها، في ظل غياب اليقين بمستقبل العلاقة مع حليفهم الأميركي. كذلك فإن محاولة ماكرون جرّ الأوروبيين، والألمان على وجه التحديد، إلى اعتبار النووي الفرنسي جزءاً من "مظلة الردع الأوروبية" تلقى أيضاً شكوكاً وتوجساً. فالخطة تستهدف جلب أموال الأوروبيين نحو تعزيز الأسلحة النووية الفرنسية وتحديثها، دون أن يكون للأوروبيين تأثير ونفوذ كبيران على السلاح، وبالتالي إبعاد أي أصبع غير فرنسية قادرة على التصرف فيها.
تكشف ارتدادات النقاشات المتزايدة عن قوة الردع الأوروبية عن أنها تعاني صعوبات بالغة بعد ثلاثة عقود مما يسمونه "تباطؤ" التسلح وتراجعه. بل يشكك البعض، مثلما نقلت صحيفة "لوموند" عن الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، كاميل غراند، الذي شغل أيضاً منصب مساعد الأمين العام لـ"الأطلسي" للاستثمارات الدفاعية، تأكيده أنه "ليس لفرنسا القدرة على استبدال الولايات المتحدة وتجهيز الطائرات الأوروبية بالقنابل الفرنسية (النووية)".
من ناحية أخرى، يدرك المتحمسون لمظلة ردع نووي أوروبي أن برلين أيضاً أمامها عقبات قانونية وعملية للدخول في التسلح النووي، إلى جانب أنها موقعة على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أو تطويرها. وبغضّ النظر إلى أين سيقود السجال في أوروبا، فإن المستشار الألماني شولتز صرّح يوم 16 فبراير/ شباط الحالي لصحيفة "سوددويتشه تسايتونغ" عن "استمراره بالتعويل على علاقة عبر الأطلسي"، قائلاً: "أنا مؤيد قوي لحلف شمال الأطلسي، ومقتنع بأن الناتو سيستمر في ضمان أمننا في العقود المقبلة".
ذلك بالطبع يرتبط بقدرة القارة على صرف المزيد والمزيد على سباق التسلح التقليدي، ليس فقط لمواجهة ما يؤمنون بأنه "تحدٍّ روسي"، بل اتقاء الشرخ الذي يمكن أن يحدثه عبر الأطلسي في حال عودة ترامب إلى البيت الأبيض.