أخيراً عاد الشهيد محمد شحام، ابن بلدة كفر عقب، شمالي القدس المحتلة، إلى أحضان والديه وشقيقيه وشقيقتيه، بعد أن مكث مسربلاً بدمه في ثلاجة الموتى نحو شهر ونصف، فيما يؤكد والده أنه يعتزم مقاضاة قتلة ابنه، وأن لديه من الوثائق ما يدحض رواية الاحتلال بشأن مقتله.
عند منتصف ليل الجمعة، عاد شحام إلى منزل جده في مخيم قلنديا، شمالي مدينة القدس، وهو المخيم الذي عاش فيه والداه، ومن بعدهما هو وكامل أفراد أسرته، قبل أن تستقر العائلة في بلدة كفر عقب الملاصقة للمخيم.
بعد غياب استمر شهراً ونصف الشهر في ثلاجة الموتى، التقى الوالد بولده عند حاجز قلنديا العسكري إلى جانب طاقم الدفاع، الذي وكلته العائلة باسترجاع جثمان الشهيد، بعد أن رضخ الاحتلال لمطلب العائلة، تحت طائلة التوجه إلى المحكمة العليا للاحتلال إن رفض جيش الاحتلال تسليم الجثمان، كما فعل مع عشرات جثامين الشهداء المحتجزة في ثلاجات الموتى.
روى إبراهيم شحام والد الشهيد محمد، لـ"العربي الجديد"، لحظة اللقاء الأول مع نجله وقد عاد شهيداً، فقال:" كانت لحظات صعبة، بكيت كثيراً وأنا أحضن جسده البارد، محمد الذي كان بكامل حيويته وقوته عاد أخيراً إلينا، كدنا نفقد الأمل من عودته حتى وهو شهيد، عاد إلى حضني وحضن والدته التي لم تتمالك نفسها بينما كانت تحتضنه، بكينا وبكى الكل، لم نصدق أن محمد قد عاد، وأننا سنقضي معه فجر يوم الجمعة حتى ظهيرة ذلك اليوم حين ودعه المخيم كله، وودعه أحبابه وإخوته من أبناء المخيم وأبناء القرى والبلدات المجاورة في محافظة القدس".
فرحة والد الشهيد باستعادة جثمان نجله ودفنه في مقبرة الشهداء بمخيم قلنديا لا يعادلها فرحة، رغم كل الألم الذي رافقه وأفراد عائلته بينما كان المشيعون يحملون نعشه ويغادرون به منزل جد الشهيد في المخيم نحو المسجد، ومن هناك إلى المقبرة.
"محمد سيلتقي حتماً بابن عمه علاء الذي سبقه إلى الشهادة في شهر مارس/ آذار من العام الجاري، سيلتقيان مجدداً.."، يقول والد محمد بينما لا تزال لحظة اللقاء الأول التي لامس فيها جسد ابنه تسكن ذاكرة هذا المواطن الذي ودّع بالدموع والبكاء أعز أبنائه، وساعده الأيمن في رعاية أسرته والعناية باثنين من أشقائه يعانيان ضعفاً شديداً في البصر".
لقاء أمس كان الأخير الذي جمع الشهيد بعائلته، بينما لا تزال العائلة بكل أفرادها، تتذكر الرعب الذي عاشته تلك الليلة الصعبة حين ارتقى محمد أمامهم ولم يتمكنوا من فعل أي شيء، فيما كانت البنادق فوق رؤوسهم تجبرهم على البقاء في غرفة من غرف المنزل محتجزين، حتى أنهى جنود الاحتلال مهمة الإعدام التي أتوا من أجلها.
يقول والد الشهيد: "لن ننسى، ولن نغفر، ما زالت تلك اللحظات كابوساً نعيشه على مدى الوقت، ما زال صوت الرصاصة التي أطلقت على رأس محمد تدوي في رؤوسنا، وما زال دمه الذي غطى أرض الصالة، وعلى درج البناية حيث اقتادوه بعنف شاهداً على جريمتهم، سنقاضيهم ونلاحقهم، ولن يذهب دم محمد هدراً..".
يضيف والده: "اعترفوا بجريمتهم، وحاولوا الاعتذار بادعاء أن محمد لم يكن الهدف المقصود، وزعموا أن خطأ ما قد حدث في تشخيص الهدف".
ويتساءل: "أي وقاحة لدى هؤلاء، لقد اقتحموا البيت دون سابق إنذار، فجّروا بوابته الرئيسية، كما فجروا مركبتنا عند مدخل البناية، لم يترك لنا مجال لنفتح الباب، وشرعوا بإطلاق النار بشكل عشوائي على الجميع، فاحتمينا بالجدار، لكن كانت الرصاصة أقرب لمحمد، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بضربنا جميعاً واعتدوا على شقيق الشهيد الضرير".
هل كان بالإمكان إنقاذ محمد حتى بعد إصابته؟ يجيب والد الشهيد: "ربما كانت هناك فرصة حيث كانت قوات الاحتلال تصطحب معها سيارة إسعاف، إلا أنهم لم يسمحوا لها بالدخول، وكذلك سيارات الإسعاف الفلسطينية، لإنقاذ محمد، لقد خطفوا محمد وهو ينزف، وشاهدنا بعد مغادرتهم دماءه التي غطت درج البناية، حتى وهو مصاب تعاملوا معه بوحشية".
يضيف: "نحن سنأخذ حق ابننا، لن ندعهم يفلتون من العقاب، وسنلاحقهم في كل المحافل، سنبدأ إجراءاتنا بهذا الخصوص وسيكون لنا طاقم دفاع قوي يتابع الملف محلياً ودولياً بعد الانتهاء من بيت العزاء، خاصة أن محمد لم يكن مطلوباً أو مطارداً لقوات الاحتلال، وكان بإمكانه التنقل يومياً عبر الحواجز الإسرائيلية بحرية تامة بحكم عمله، حيث كان يعمل في ورش البناء بمدينة القدس، ولدي من الوثائق والمستندات ما يدحض روايتهم الأولى التي برروا فيها جريمتهم بأنهم أطلقوا النار عليه لحيازته سكيناً كان يهم لطعن الجنود بها، هذه رواية مفضوحة ومكشوفة ولطالما فعلوها مع شهداء آخرين، حيث كانوا يلقون سكينهم إلى جوار جثمان الشهيد ثم يدعون بأنه حاول طعنهم".
يحمل الشهيد محمد الدبلوم الصناعي في التكييف والتبريد من معهد قلنديا، وله من الأشقاء خمسة، 3 منهم مكفوفون هم: سند (23 عاماً) وأحمد (20 عاماً) وريماس (12 عاماً).
لقد رحل محمد وارتقى شهيداً، إلا أنه لم يرحل من ذاكرة كل فرد من أفراد أسرته، خاصة والدته التي أتيح لها أن تحضنه وتودعه طويلاً بينما كان الحشد الكبير من الناس ينتظر حمل نعشه للصلاة عليه في مسجد المخيم.
عاش مخيم قلنديا، أمس الجمعة، تلك اللحظات الصعبة والمؤثرة وهو يودع الشهيد على وقع هتافات التكبير وافتداء الشهيد بالروح والدم، بينما كان أزيز الرصاص لعشرات المسلحين الملثمين يملأ سماء المخيم إكراماً لروح الشهيد، ووعيداً للاحتلال.