تحضيراً لانتخابات البرلمان الأوروبي المقرّرة في يونيو/حزيران عام 2024، يذهب المعسكر اليميني القومي المتشدد في أوروبا نحو شدّ عصب مؤيديه، لزيادة حظوظه في الوصول إلى حكم القارة العجوز، من بوابة ما يسميها مواجهة "طوفان الهجرة". وظهر ذلك أخيراً، على الأقل، خلال الأيام الماضية، في اتفاق قطبيه الإيطالي والفرنسي، ماتيو سالفيني ومارين لوبان، بالتعاون مع بقية القوى الأوروبية التي شاركت في اللقاء.
وعلى وقع تطورات الهجرة غير النظامية التي يغيب حولها توافق رسمي أوروبي جدّي لمواجهة ما يوصف بأنه "عودة أزمة 2015"، حين اختلف الأوروبيون بشأن سياسة موحدة لمواجهة وصول أكثر من مليون مهاجر غير نظامي إلى القارة، يستغل معسكر اليمين المتطرف اليوم، الارتباك الرسمي، لمصلحة استعادة خطابه الرافض لوصول المزيد من اللاجئين إلى مجتمعاته.
في روما، تستعجل رئيسة الحكومة جورجيا ميلوني، القادمة من حزب "إخوة إيطاليا" شبه الفاشي في جذوره، رفع عيار خطابها تحت سقف الظهور كسيدة دولة. عينها ببساطة على ما تعرفه من استغلال حالة التخويف التي مارستها بشأن الهجرة لجذب الناخبين الذين جعلوها تصل إلى رئاسة الحكومة.
تحيّن سالفيني الفرص لطرح نفسه بديلاً أكثر تشدداً من ميلوني
ويتحيّن زعيم حزب "ليغا"، نائب رئيسة الحكومة، ماتيو سالفيني، الفرص لطرح نفسه بديلاً أكثر تشدداً. وبينما تسعى ميلوني جاهدة لأن تصبح زعيمة تيار اليمين والمحافظين في إيطاليا بعد رحيل (رئيس الوزراء الأسبق) سيلفيو برلسكوني، يعيد سالفيني التذكير بسياساته المتشددة كوزير داخلية سابق، ومنها التضييق على سفن الإنقاذ غير الحكومية في المتوسط ورفض قوارب الهجرة.
ومع أن الأزمة السياسية قبل سنوات بين فرنسا وإيطاليا تعود لتطلّ برأسها في بعض الأحيان، من خلال خطاب ميلوني المتشدد حيال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، على خلفية استمرار تدفق اللاجئين من أفريقيا، مذكّرة بدور فرنسا "التخريبي" والمستغل للأفارقة، إلا أن أقطاب اليمين المتطرف الآخرين في القارة يدركون أهمية "التحالف" تحت شعارات رهاب الهجرة.
ويُطرب المرشحة الرئاسية السابقة في فرنسا، زعيمة اليمين المتشدد الفرنسي، مارين لوبان، سماع خطاب سالفيني عن "الحرب على إيطاليا"، حين صرح قبل أيام بأن الحكومة التونسية أعلنت تلك "الحرب" على بلده، معتبراً أن "وصول 6 آلاف مهاجر خلال 24 ساعة ليس من قبيل الصدفة".
يضع سالفيني جانباً، أو يتجاهل، أن حكومته كانت المحرّك لاتفاقية أوروبية أبرمت مع تونس (في يونيو الماضي) وتقضي بوقف الأخيرة قوارب الهجرة. ومع أن السلطات التونسية أعلنت إيقاف نحو 70 ألف محاولة هجرة غير نظامية خلال العام الحالي، إلا أن تسويق نظرية المؤامرة هي السياسة المفضلة عند سياسي اليمين المتشدد الأوروبي.
جبهة متحدة لليمين المتطرف لحكم أوروبا
جاءت استضافة سالفيني يوم الأحد الماضي في بونتيدا (في مقاطعة بيرغامو بإقليم لومبارديا) لأقطاب اليمين المتشدد الأوروبي، لإطلاق صرخة سياسية في الشارع، من أجل طرح أحزابها وقواها كبديل موثوق للإدارات السياسية القائمة. وتتسلح هذه الأقطاب بارتفاع ملحوظ في مستويات الهجرة نحو القارة، الحائرة بين "خريف ديمغرافي" بتراجع نسبة المواليد في مجتمعاتها وحاجتها لليد العاملة (إيطاليا تحتاج حتى 2025 إلى نحو 450 ألف عامل)، ومكافحة مراكب الهجرة نحوها. وتزايد بالفعل خلال الأشهر القليلة الماضية وصول مراكب المهاجرين غير النظاميين من شمال أفريقيا عبر البحر الأبيض المتوسط نحو الجزر الإيطالية.
ووفقاً للأرقام الرسمية الإيطالية، فقد وصل أكثر من 115 ألف شخص لطلب اللجوء إلى إيطاليا منذ مطلع 2023، 70 ألفاً منهم نحو لامبيدوزا التي تقطنها 6500 نسمة، واستقبلت لوحدها نحو 200 مركب للمهاجرين غير النظاميين في الأسبوعين الأولين من شهر سبتمبر/أيلول الحالي.
وصل أكثر من 115 ألف شخص لطلب اللجوء إلى إيطاليا منذ مطلع 2023
خلال التجمع، أطلقت لوبان مع سالفيني مواقفهما المعتادة عن اتهام ما يسميانه "هيمنة الكتلة الليبرالية اليسارية على السياسة الأوروبية". واعتبرت الزعيمة الروحية لحزب "التجمع الوطني" ("الجبهة الوطنية" سابقاً) وكتلته البرلمانية، أن الوقت حان من أجل أن تجمع الأحزاب اليمينية في أوروبا قواها "لحماية شعب أوروبا من الهجرة الجماعية". وقالت لوبان: "نحن ندافع عن تقاليدنا وطعامنا وهوياتنا ومناظرنا الطبيعية، ندافع عن شعوبنا ضد تدفق المهاجرين". واتفق سالفيني مع لوبان على أن تشكيل "جبهة متحدة" من الأحزاب القومية يأتي على خلفية "خوض معركة مشتركة للدفاع عن الحرية والوطن".
التهويل من الهجرة وطرح البدائل
ويحمّل أقطاب معسكر التطرف اليميني، في مسعاه إلى تشكيل الجبهة المتحدة، الطبقات السياسية التقليدية في دول الاتحاد الأوروبي مسؤولية تفاقم أزمة الهجرة. والتخويف منها يقودهم إلى طرح أنفسهم كـ"أوروبيين مستعدين لحماية قارتنا وثقافتنا وحضارتنا"، كما جاء في لقاء نهاية الأسبوع الماضي.
ولا يغيب عن مخططات المشاركين في اللقاء، بمن فيهم حزب "البديل لأجل ألمانيا"، تأجيج مشاعر الشارع خلال الأشهر المقبلة في محاولة لاكتساح البرلمان الأوروبي، باعتباره سلطة تشريعية مهمة، للضغط من أجل فرض تغييرات جذرية على سياسات القارة ومن أجل ما يسمونه تعزيز "مقاومة الشعوب الأوروبية للنفوذ الخارجي" من خلال أحزابهم تحديداً كبدائل للسلطات القائمة، بل ولإثبات تقدمهم في الشارع في محاولة لاستعادة تجربة "إخوة إيطاليا".
سالفيني، لم يتردد بالتصريح أنه إذا كان عليه الاختيار بين لوبان وماكرون، لاختار الأولى على اعتبار أن "لدينا مهمة مشتركة للفوز في إيطاليا وفي الاتحاد الأوروبي". وشدّد زعيم "ليغا" على أنه قبل نهاية العام الحالي ستقوم قوى معسكر اليمين المتطرف باستعراض عضلات في الشارع من خلال "تظاهرة حاشدة للقوى التي تستعد لاستبدال اليسار الأوروبي العام المقبل".
خدمات متبادلة
بالنسبة لمارين لوبان، فإن شدّ عصب الشارع في تشكل "الجبهة المتحدة"، وإضفاء شرعية على الخطاب المتطرف في أنحاء أوروبا، يأتي قبل انتخابات فرنسية ستجري بعد غدٍ الأحد، لشغل نصف مقاعد مجلس الشيوخ الفرنسي البالغ عددها 348 مقعداً.
يسعى اليمين المتطرف إلى تأجيج مشاعر الشارع خلال الأشهر المقبلة في محاولة لاكتساح البرلمان الأوروبي باعتباره سلطة تشريعية مهمة
وتعتبر لوبان أن ميلوني هي ضحية ضغوط اضطرتها إلى "تقديم تنازلات لبروكسل بشأن الهجرة، حتى تتمكن من الوصول إلى أموال خطة الإنعاش الأوروبي المخصصة لإيطاليا"، منتقدة رئيسة الحكومة الإيطالية، ضمنياً، لدعوتها رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين إلى لامبيدوزا، مع تفاقم وضع الهجرة (زارت فون ديرلاين الجزيرة الأحد الماضي وعرضت خطة طارئة لمساعدة إيطاليا). وناشدت لوبان، خلال لقاء بونتيدا في لومبارديا، الإيطاليين، للتصويت لصالح حزب "ليغا" وسالفيني "كخيار صحيح ووحيد" في الانتخابات الأوروبية المقبلة. ودعت السيدة التي خسرت 3 انتخابات رئاسية فرنسية سابقة، الناخبين الفرنسيين، للتصويت لحزبها في انتخابات مجلس الشيوخ الفرنسي الأحد، وفي الانتخابات الأوروبية المقبلة.
وتذهب قراءات أوروبية متعددة نحو اعتبار أزمة تزايد قوارب اللجوء هذا العام، والخشية من استمرار الخلافات التي سادت في عامي 2015 و2016، حتى اليوم، من خلال بروز خلافات علنية بين الدول حيال استقبال ورفض القادمين عبر إيطاليا على سبيل المثال، كفرصة ذهبية لقوى اليمين المتشدد في القارة، لطرح نفسها كبديل واقعي ومقبول. وهو ما يعني عملياً كسر محظور تاريخي بعدم السماح "مرّة ثانية" (بعد رفض النازية والفاشية بعد 1945) لوصول اليمين المتطرف أو مشاركته في سلطات الحكم الأوروبية.
في صيف 2021، اتفق المعسكر القومي المتشدد على إنشاء تحالفات عابرة للأوطان، وأكثر تعاوناً على مستوى البرلمان الأوروبي وفي السياسات التي يرونها مهددة لمستقبل القارة، وعلى رأسها الهجرة. ففي يوليو/تموز من ذلك العام، وقّع المعسكر المتشدد في القارة على اتفاقية تعاون تحت عنوان "دولة أوروبية عظمى"، وشرح أوجه التعاون للدفاع عن "تقاليد وثقافة وتاريخ وتراث أوروبا المسيحي".
وضم هذا التجمع أحزاب "التجمع الوطني" الفرنسي و"ليغا" و"فيديز" المجري و"القانون والعدالة" البولندي و"بوكس" (فوكس) الإسباني و"إخوة إيطاليا" بزعامة ميلوني وحزب "الحرية" النمساوي و"فلامس بيلانغ" البلجيكي و"الشعب الدنماركي" و"جا21" الهولندي و"إكر" الإستوني و"الفنلنديين الحقيقيين" (مشارك في حكومة هلنسكي اليوم) و"إيابل" الليتواني، و"البديل لأجل ألمانيا" و"إليني ليسي" اليوناني، بالإضافة إلى حزبي "فمر"و اليميني المتشدد في بلغاريا و"بي أن تي" في رومانيا.
وبوجود سلطات قومية محافظة في المجر وبولندا وإيطاليا ونفوذ أحزابها في سياسات دول أخرى حول القارة، يبدو واضحاً أن تقدماً كبيراً بدأ يحرزه القوميون المتشددون والطامحون للسلطة. ويذكر في هذا السياق، أن اليمين الأميركي ومستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ستيف بانون، كانا لعبا دوراً في تعزيز تعاون اليمين المتطرف الأوروبي، ويعتقد كثيرون أن هذا الدور لم يتراجع وبمساعدة أقطاب أميركية متشددة.
يتوقع مراقبون أن يقفز معسكر القوميين المتشددين في البرلمان الأوروبي إلى نحو 150 مقعداً، ويتفوقون على أكبر كتلة، "الديمقراطيين الاشتراكيين"
يسعى القوميون المتشددون إلى تشكيل كتلة كبيرة ووازنة في البرلمان الأوروبي المقبلة. وفي الوقت نفسه، تعبّر الإعلانات والاجتماعات السياسية المتتالية بين أقطابهم، كالاجتماع الذي استضافه سالفيني، إلى تقديم دعم للأحزاب المتأخرة في الاستطلاعات.
فحزب "ليغا" بزعامته حصل في انتخابات البرلمان الأوروبي السابقة، عام 2019، على نسبة 34 في المائة (29 مقعداً)، من أصل 705 مقاعد ممثلة للدول الأوروبية. وبحسب توقعات حديثة لـ"منظمة انتخابات أوروبا"، لمصلحة موقع "يورو أكتيف"، يبدو أن "ليغا" لن يحصل في الانتخابات الأوروبية المقبلة سوى على نحو 9 مقاعد، بينما يبدو أن حزب "إخوة إيطاليا" بزعامة ميلوني سيحقق نحو 30 في المائة أي 27 مقعداً (يملك 6 الآن). وبصورة عامة، تحقق ميلوني تقدماً ببضع نقاط مئوية عن الانتخابات العامة الماضية التي أجريت في بلدها، بشهر سبتمبر الماضي (والتي فازت بها).
وفي لغة الأرقام أيضاً، فقد تنبأ موقع "أورو أكتيف"، أيضاً، في تقرير نشره في 7 سبتمبر الحالي، أن تحصل قائمة ابنة أخت مارين لوبان، ماريون ماريشال، التي ستتحالف مع حزب اليميني المتطرف إريك زمور، على ما بين 6.5 و7 في المائة في الانتخابات الأوروبية المقبلة. هذا إلى جانب أن "التجمع الوطني" الذي آلت زعامته من لوبان إلى جوردان بارديلا، بات يتفوق في الاستطلاعات على الحزب الليبرالي الذي يتزعمه الرئيس ماكرون ("النهضة" أو "الجمهورية إلى الأمام" سابقاً).
كذلك يحقق "البديل لأجل ألمانيا" المزيد من المفاجآت على مستوى انتخابات المقاطعات، ما ينذر بتحقيقه نتائج لا بأس بها في انتخابات البرلمان الأوروبي، ما يؤشر أيضاً على حالة تطبيع مع اليمين القومي المتشدد في ألمانيا، والذي تمنحه الاستطلاعات الأخيرة نحو 20 في المائة، ويتفوق في بعض الولايات على "الاجتماعي الديمقراطي" بزعامة أولاف شولتز. كما تمنح الاستطلاعات اليمين المتشدد في بولندا، "القانون والعدالة"، دفعة قوية قبيل الانتخابات العامة المقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
وفي العموم، يتوقع مراقبون متابعون للتطورات الانتخابية، أن يقفز معسكر القوميين المتشددين في البرلمان الأوروبي إلى نحو 150 مقعداً، بعد انتخابات يونيو المقبل، ويتفوقوا بالتالي على أكبر كتلة، "الديمقراطيين الاشتراكيين"، الذين يملكون كتلة من 143 مقعداً.
ويبدو أن تحالف اليمين القومي المتشدد في أوروبا، تحت عنوان "جبهة متحدة" في مواجهة "طوفان المهاجرين"، يعيد إلى الأذهان ثبات ذات الشعارات الممتدة منذ 2014 و2015، والتي جاءت على لسان رئيس الحكومة المجرية فيكتور أوربان بعنوان "الغزو والاجتياح".
ويأمل هذا التحالف في إعادة تسخين قضية الهجرة، لتمنح سفنه بعض رياح الدفع القوية في سياق تطبيع النفوذ وصولاً إلى حكمه القارة العجوز. ومن شأن ذلك أن يخلق انقساماً واستقطاباً في مستوى التشريع الأوروبي، ولذلك أهمية كبيرة، على صعد عدو، ومنها إذا ما عرفنا مثلاً أن بعض أحزاب هذا المعسكر تعتبر "صديقة لروسيا". ويعني ذلك تخوفات من أن ينعكس تقدم المعسكر على الساحات الأوروبية على مستوى الانخراط الأوروبي في دعم أوكرانيا في مواجهة روسيا منذ 18 شهراً.