يهودية أميركية تروي لـ"العربي الجديد" كيف تحوّلت من الصهيونية إلى معاداة إسرائيل
في حوار خاص مع "العربي الجديد"، تحكي يهودية أميركية تدعى ليا هاريس تفاصيل رحلتها مع الصهيونية من داعمة إلى معادية لها، ومن الشك إلى اليقين، ومن الجهل إلى المعرفة، ومن الكراهية إلى المحبة. وأخيرا، إلى ناشطة على قائمة اليهود المعادين لإسرائيل، تتلقى تهديدات بسبب أنشطتها الداعمة لفلسطين. وتؤكد أن ما هو أساسي لهويتها كيهودية هو "محاربة الظلم والوقوف إلى جانب الحياة والحرية".
نشأت هاريس في عائلة يهودية أميركية من أصول أوروبية، من بولندا وأوكرانيا، هربت من العنف في أوروبا خلال القرن الماضي، وحرص أهلها على تنشئتها نشأة تؤمن بـ"الحق اليهودي في فلسطين". اليوم، تؤمن هاريس بأن ما تعلمته هو تاريخ من أكاذيب، فتقول: "نشأت على التعاليم اليهودية، وعلى الأكاذيب بأن أرض فلسطين كانت أرضا من دون بشر، وأن الهولوكوست حدث فقط لليهود ولم يحدث من قبل، ولن يحدث شيء مثله في التاريخ، وأن اليهود مكروهون دائما، وسيظلون كذلك، وأن نتيجة ذلك، المنطقية والحتمية، هي دولة إسرائيل، لأنها الطريقة الوحيدة للخلاص. تعلمنا ألا نثق بغير اليهود".
أطفال فلسطينيون يواجهون الرصاص بالحجارة
بدأ وعي هاريس بالعالم المحيط، خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987، التي استمرت بضع سنوات، استشهد فيها أكثر من 1500 فلسطيني. في حينه، كانت في الـ15من عمرها، وبينما كانت تشاهد الأخبار مع عائلتها، لاحظت بألم أن أطفالا فلسطينيين في مثل عمرها يواجهون الرصاص بالحجارة. لم تستطع أن تنطق بكلمة واحدة، لأن نقاشا كهذا غير مقبول ضمن العائلة. ثم تغير كل شيء تماما في حياتها بدءا من زيارتها إلى مصر في تسعينيات القرن الماضي.
تحكي هاريس لـ"العربي الجديد"، عن أول زيارة لها إلى مصر في العام 1996 وما عايشته في محيطها كونها يهودية أميركية. هناك أقامت هاريس للدراسة في الجامعة الأميركية، وبدأت لأول مرة في التعرف إلى حقيقة القضية الفلسطينية، وتفهمت معاناة الفلسطينيين بعدما التقت، لأول مرة أيضا، طالبة فلسطينية.
قابل بعض أصدقائها اليهود معيشتها في القاهرة بكثير من القلق والخوف، تم تذكيرها كثيرا بضرورة العودة إلى إسرائيل، تقول ليا إنها عندما زارت إسرائيل شاهدت هناك الكراهية والتمييز والعنصرية ضد العرب والمسلمين والفلسطينيين، وتضيف: "بفضل جواز سفري الأميركي سمح لي بزيارة الأراضي الفلسطينية رغم تحذيراتهم لي، وعندما أخبرتهم بأني أعيش وأدرس في القاهرة تعاملوا معي على أني غير متزنة أو مجنونة، سألوني عن شعوري وأنا محاطة بالعرب. كنت أهز رأسي وأبتسم وأقول أنظروا إلى الخريطة. كانوا يقولون لي مرحبا في بيتك لكن لم أشعر أنني في بيتي على الإطلاق".
وتابعت: "كانوا خائفين على سلامتي، إنني أشعر بالاشمئزاز الشديد من الطريقة التي تعاملوا بها معي في إسرائيل، عندما قلت إني أعيش في القاهرة، لم يسألني أحد عن تفاصيل حياتي في مصر، وقال لي بعضهم إنهم لن يعشوا في القاهرة حتى لو حصلوا على مليون دولار".
ما تعرض له اليهود لن يتكرر مجدداً
قضت هاريس الكثير من الوقت في القدس الشرقية المحتلة، وبرفقة فلسطينين كثر. تقول: "كونت الكثير من الأصدقاء الجدد هناك، وقد علموني أكثر. فكانت تلك هي المرة الأولى التي أعرف فيها عن حنظلة رمز الشعب الفلسطيني. كنت أسأل إحداهن، ما هذا الذي حول رقبتك؟ تلك الصورة لهذا الطفل العاري. سألتني: هل لديك وقت؟ لقد جلست معي، وعلمتني".
سافرت هاريس أيضا إلى الأردن ولبنان، ولم يكن "مر وقت طويل على مذبحة قانا". تضيف "لم يكن الأميركيون سعداء بزيارتي. شعرت بواجبي وحاجتي إلى الشهادة على العنف والمجازر التي ترتكبها إسرائيل باسمنا كيهود، وليس ذلك من باب الفضول، لأنني نشأت على عبارة (ما حدث لليهود لن يتكرر مجددا). لقد أخذت ذلك حرفيا على أنه المحرقة التي حدثت لنا لن تتكرر أبدا لآخرين".
لن تنسى هاريس "قانا وصور الأطفال والشيوخ"، لأن ذلك يخلق لديها الغضب "باسم سلامة اليهود، وكنت أشعر كيف تتخلص نفسي من الأكاذيب التي تمت تغذيتي بها".
الصهيونية والاستعمار قضيا على التنوع المذهل في الشرق
أكثر ما يحزنها هو كيف قضى الاستعمار والصهيونية على ما تصفه بـ"التنوع المذهل، والثراء الثقافي"، في الشرق الأوسط قبل وجود إسرائيل، وتقول: "الحياة لم تكن بالتأكيد مثالية تماما، لكن الناس عاشوا وتعايشوا معا، كانوا قادرين على التعايش مع اختلافاتهم، مسلمين ومسيحيين ويهود. أنا أعي ما أقوله تماما، فأنا أجريت بحثا عن تاريخ المجتمع اليهودي في مصر، وكنت مفتونة تماما بالقصص، وانتهى بي الأمر بتدريس فصل دراسي لطلاب جامعيين آخرين حول تاريخ المجتمعات اليهودية في العالم العربي".
وتوضح أنه "عندما كنت في مصر، كانوا يسألونني: هل سمعت من قبل عن ليلى مراد المغنية اليهودية في أربعينيات القرن الماضي"، وترى أنه قضي على "كل هذا الثراء الثقافي، كما انتهى هذا التجانس من أجل هذا الشيء الذي يسمونه إسرائيل"، وتؤكد أنه "نحن جيران. نحن نعيش على هذه الأرض معا. هناك الكثير من الأشياء المشتركة بيننا، لكني أشعر أن تلك الأيام قد ولت".
اليهودية الأميركية هاريس على "قائمة الشرف" في مصر
عادت هاريس إلى القاهرة مرة أخرى للدراسة في عام 2000، وكتب الكاتب المصري الشهير أحمد بهجت عنها في جريدة الأهرام مقالا تضمن رسالتها إلى أستاذتها راغدة العيسوي، وقالت فيها إن إسرائيل "تقتل باسمنا كيهود، إنهم يقتلون باسمي"، ثم كتب عنها في بريد الأهرام أنها ضمن قائمة الشرف لهذا العام.
تروي هاريس عن فترة مكوثها في مصر بمشاعر دافئة، ومحبة وحنين كبيرين، وتصف وضع اسمها على قائمة الشرف بسبب موقفها العادل من القضية الفلسطينية بقولها: "هناك قابلت المحبة وحصلت على الاحترام لمجرد قيامي بما هو صواب. أنت تعرف؟ ليس أي شيء يستحق أن يوضع من أجله المرء على قائمة الشرف. كل ما فعلته أنني تحدثت علنا عما هو صحيح في هذا العالم وضد العنف والاستغلال".
بعدما أنهت دراستها عادت إلى الولايات المتحدة، وتشير إلى أنها بدأت منذ نحو 20 عاما في العمل ضد الجرائم التي ترتكبها إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط، والعمل مع عدد من الأشخاص داخل الولايات المتحدة حول حقيقة "أننا نقتل الناس في فلسطين، وأننا نزود إسرائيل بدولارات ضرائبنا... كنا نحاول أن نشرح للمواطن الأميركي أن أموالك التي كسبتها بصعوبة ستذهب نحو هذه الأسلحة، وهذه القنابل، وهذه الدبابات".
تستطرد هاريس "عندما كنت في فلسطين، كنت، كما تعلم، فتاة يهودية أميركية حسنة النية. وأنا أقول، ماذا يمكنني أن أفعل للمساعدة؟ هل يجب أن آتي إلى هنا للمساعدة؟ كانوا يقولون لا، ارجعي إلى بلدك، وقومي بتغيير حكومتك. هذا ما سمعته بصوت عالٍ وواضح: (نحن لسنا بحاجة لمساعدتكم هنا. نحن بحاجة إليكم، لتغيير هذا النظام الذي يتعاون مع إسرائيل لقمعنا)".
منذ أن سمعت تلك الكلمات التي تطالبها بالتغيير داخل أميركا لمساعدة الفلسطينيين، اعتبرت ذلك رسالتها الأولى: "بدأنا بتعريف الناس بأن أموالنا تستخدم لقتل الناس في فلسطين، كنا نقوم أيضا بالضغط، وبتنظيم أنفسنا كيهود محاولين رفع مستوى الوعي لدى اليهود الآخرين. كان هذا حتى قبل أن تبدأ منظمة (الصوت اليهودي من أجل السلام) في سان فرانسيسكو، لكنني كنت في منطقة العاصمة طوال الوقت. كنا نحاول فقط التحدث والتثقيف وفعل كل ما في وسعنا".
اليهودية الأميركية على "قائمة العار" الصهيونية
وتشير إلى أنها كانت تكتب مقالات وتتعرض لتهديد بمقاضاتها من قبل المنظمات الصهيونية، وأنها تقوم بكل ما في وسعها لأن الأمر يتعلق بهويتها، وتقول: "شعرت دائما أنه من المهم حقا بالنسبة لي أن أتحدث على وجه التحديد كشخص يهودي، لأن هذا أمر أساسي لهويتي اليهودية، وهو محاربة الظلم، وأن أكون إلى جانب الحياة والحرية، ولذا عملت دائما مع منظمات لا يقودها اليهود، وأنا أفعل ذلك الآن، وأنا أؤمن بذلك بنسبة 100%، لكنني دائما أرفع شعار كوني يهودية".
استهدفت المنظمات الصهيونية هاريس، ووضعتها في "قائمة العار"، وعن ذلك تقول: "الناس يقولون لي إنها شجاعة كبيرة منك أن تقفي ضد شعبك. لكن الأمر، بصراحة، هو أنك تقف ضد القمع والكراهية والعنصرية. نعم، ربما نحن متصلون وراثيا، لكني لم أعد أعتبركم شعبي بعد الآن، وهم يشعرون بالطريقة نفسها تجاهنا، وهو ما عبر عنه رئيس تحرير جيروزاليم بوست أخيرا بشأن اليهود المناهضين للصهيونية، حيث كتب مقالة افتتاحية قال فيها إنهم لم يعودوا جزءا منا ويجب التعامل معهم على أساس ذلك".
وعن علاقتها مع أهلها، في أميركا وإسرائيل، تقول: "كانوا يعرفون بالفعل أنني متمردة، لذلك كانوا معتادين على أن تكون لي وجهات نظر معارضة. يعتبرونني مجنونة، يقولون ذلك بوضوح". وأصبح الأمر بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول أنه "إذا تحدثت علنا ضد الإبادة الجماعية أو إذا تجرأت على الإشارة إلى الحق في المقاومة، تعتبر مؤيدا لحركة حماس، وأنك إرهابي، وأنك متعاطف مع الإرهابيين. أنا أيضا أنظر إلى الأمر بالطريقة نفسها، فبالنسبة لي لا أستطيع أن أوافق على خلاف حول إدانة الإبادة الجماعية".
وتابعت: "متأكدة تماما من أنني قد أبعدت معظم أفراد عائلة والدي، وأنا لا أستطيع حتى أن أنظر إليهم، لأنهم إما التزموا الصمت بشأن الإبادة الجماعية أو أنهم لاحقوني بسبب الأشياء التي قلتها، لقد اتهموني بالرغبة في قتل الأطفال وتفضيل الاغتصاب. هؤلاء هم الأشخاص الذين يعرفونني، يخبرونني بأشياء كهذه لأنني أقول إن هذا لم يبدأ في السابع من أكتوبر".
تعتقد أن عواقب المواقف المشابهة لموقفها "وخيمة هذه الأيام"، وتشرح: "لست الشخص الوحيد. لدي صديق تقول عائلته إنه لا بد أنه مريض عقليا لأنه يدعم التضامن مع الفلسطينيين... إذا كنت مجنونة لأنني أتحدث علنا ضد الإبادة الجماعية، فليكن. إذا كنت مجنونة لأنني أريد أن يكون الناس أحرارا وأن يعيشوا في سلام وأن يروا أطفالهم يكبرون، فأنا لا أريد أن أكون عاقلة. إذا كان العقل هو دعم الإبادة الجماعية والقتل والصمت والتجرد من الإنسانية، فسأختار الجنون".
بحسب هاريس، هناك 6 أشخاص من أفراد عائلتها قرروا قطع العلاقات معها عقب 7 أكتوبر 2023، وتضيف: "مثلا، فقدت فرعا كاملا من العائلة الذين كانوا يحبونني"، وتقول إنها لم تكن تعرف أنهم يدعمون الصهيونية بهذه الطريقة، وتلوم نفسها لأنها لم تكن تعرف ذلك: "أنا متأكدة هذه المرة أننا لن نتحدث إلى الأبد. الأمر هذه المرة انتهى. لكن اسمع! هناك من فقدوا عائلتهم بأكملها حرفيا، فقدوا عائلاتهم، وفقدوا كل شخص يعرفونه، وفقداني بعض أفراد عائلتي لا شيء مقارنة بما فقدوه. على الأقل يمكنني أن أعثر على عائلة في مكان آخر ومع أناس آخرين".