بعد مرور 15 عاماً على التدخل العسكري الروسي في إقليم أوسيتيا الجنوبية الانفصالي في جورجيا، تشهد أوروبا والعالم، اليوم، تغيرات جيوسياسية كثيرة، إثر الحرب الروسية في أوكرانيا، وطول أمدها، وسط عجز موسكو هذه المرة عن حسم الوضع في الميدان منذ قرابة عام ونصف العام.
وكانت روسيا بدأت في 8 أغسطس/آب 2008 أول عملية عسكرية خارج أراضيها منذ تفكك الاتحاد السوفييتي (1991)، وقصفت أهدافاً في جورجيا، بذريعة الرد على مقتل عدد من جنود حفظ السلام الروس جراء قصف جورجي على أوسيتيا. وأعلن الرئيس الروسي آنذاك، دميتري مدفيديف، عن بدء ما أطلق عليه "عملية الإرغام على السلام" في منطقة النزاع التي استمرت لخمسة أيام فقط، حتى عبور القوات الروسية حدود إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، ودخولها الأراضي الجورجية.
كوكتيش: موسكو أساءت تقدير بعض العوامل مثل قوة الجيش الأوكراني
ترتبت على الاجتياح الروسي عواقب سياسية ودبلوماسية، لعل أبرزها خروج جورجيا من رابطة الدول المستقلة، واعتراف روسيا باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية في 26 أغسطس 2008 بلا نيل اعتراف دولي واسع النطاق بهما حتى الآن، وقطع العلاقات الدبلوماسية بين روسيا وجورجيا من دون استعادتها حتى اليوم، بالإضافة إلى عودة موسكو إلى الساحة الدولية كقوة عسكرية تفرض الأمر الواقع باستخدام القوة، وهو ما تجلى لاحقاً في سورية وأوكرانيا.
أوجه التشابه والاختلاف بين أوكرانيا وجورجيا
بعد مرور 15 عاماً على "حرب الأيام الخمسة"، يرى أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتيش، أن الأزمة الجورجية هي التي شكّلت مقدمة لحلقات مسلسل المواجهة الروسية الغربية غير المباشرة، بما فيها الحرب الدائرة حالياً في أوكرانيا، مقراً بأن هناك فارقاً هائلاً بين قوة الجيشين الجورجي والأوكراني، ونطاق الدعم الغربي المقدم لكل منهما.
ويقول كوكتيش في حديث لـ"العربي الجديد" إن "الحرب الجورجية ولّدت شكوكاً في الولايات المتحدة كراعٍ موثوق فيه"، على اعتبار أنه قبل التدخل الروسي في أوسيتيا الجنوبية، كان الجميع واثقين بأن الولايات المتحدة ستقدم دعماً للرئيس الجورجي آنذاك، ميخائيل سآكاشفيلي، ولكنها لم تصدر سوى بيانات تنديد.
ويلفت أستاذ العلوم السياسية إلى أن الحرب في جورجيا قلّلت من ثقة الحلفاء في الولايات المتحدة، إذ بيّنت أن قوتها ليست مطلقة، ما ساهم، وفق تصوره، في نشوب الأزمة المالية العالمية في وقت لاحق من عام 2008 وبدء واشنطن بتمهيد أرضية لضربة انتقامية لروسيا عبر البوابة الأوكرانية.
وبعد تدخّلها في جورجيا، واصلت موسكو تحدي الدور الأميركي كحكم عالمي، متدخلة في أوكرانيا في عام 2014 بضمّ شبه جزيرة القرم أولاً، ثم دعم القوات الموالية لها في منطقة دونباس، مروراً بسورية في عام 2015، ووصولاً إلى الحرب المفتوحة المستمرة في أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط 2022 بلا انفراجة في الأفق المنظور.
لكن على عكس جورجيا، لم تتمكن روسيا من تحقيق نصر سريع في أوكرانيا، وهو ما يعلق عليه كوكتيش، بقوله إن "روسيا كانت تنطلق من أوهامها، مسيئة تقدير بعض العوامل مثل قوة الجيش الأوكراني الذي تبين أنه أصبح بفضل الدعم المقدم من حلف شمال الأطلسي (ناتو) ثاني أقوى جيش في أوروبا بعد الجيش الروسي، وتأثير الدعاية المناهضة لروسيا على السكّان في أوكرانيا وتبعية نخبها للغرب".
ويشير أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، إلى أن نقاط التشابه بين الحربين الجورجية والأوكرانية تقتصر على أيامهما الخمسة الأولى. ويقول حول ذلك: "في جورجيا، وصلت القوات الروسية إلى مشارف العاصمة تبليسي، وفي أوكرانيا، كانت الأيام الخمسة الأولى من القتال التي وصلت القوات الروسية خلالها إلى مشارف كييف أيضاً، تهدف إلى التفاوض من موقع القوة، وانعقدت بالفعل جولات عدة من المفاوضات في بيلاروسيا وتركيا، ولكن أوكرانيا هي التي رفضت مواصلة المفاوضات تحت ضغوط بريطانية في نهاية المطاف"، على حد قوله.
أندريه أريشيف: بعد خروج سآكاشفيلي من السلطة في جورجيا، صعد جيل جديد من القادة تصرف ببراغماتية
وكان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، قد استعرض أمام وفد القادة الأفارقة (وفد الوساطة الأفريقي في النزاع الأوكراني) الذي زار العاصمة الشمالية الروسية سانت بطرسبورغ في يونيو/حزيران الماضي، مشروع اتفاق وقّعه الجانبان الروسي والأوكراني بالأحرف الأولى في ربيع عام 2022 بشأن الحياد الدائم والضمانات الأمنية لأوكرانيا، متهماً كييف بالتراجع عنه و"إلقائه إلى مزبلة التاريخ"، بعد انسحاب القوات الروسية من مقاطعتي كييف وتشيرنيهيف.
تطبيع بلا علاقات دبلوماسية
على الرغم من استمرار حالة انقطاع العلاقات الدبلوماسية بين موسكو وتبليسي، إلا أن البلدين تمكنا من تطبيع العلاقات الاقتصادية بينهما، بما وصل إلى حد عزوف جورجيا عن الانضمام إلى العقوبات الغربية المفروضة على موسكو على خلفية حربها في أوكرانيا، كما تم استئناف حركة الطيران بين روسيا وجورجيا في مايو/أيار الماضي.
ويعتبر المحلل السياسي المتخصص في شؤون جنوب القوقاز، أندريه أريشيف، أن حرب عام 2008 ساهمت في تحسين العلاقات الروسية الجورجية على إثر الدور الذي لعبته في تغيير المقاربات الجورجية بعد انتهاء فترة صلاحيات سآكاشفيلي الموالي للغرب في عام 2013.
ويقول أريشيف في حديث لـ"العربي الجديد": "قبل 15 عاماً، ردت روسيا بطريقة ملائمة على الهجوم ضد أفراد حفظ السلام الروس، ودافعت عن سكّان شعبي إقليمين لم تكن تعترف باستقلالهما بعد حينها، وقامت بالتسوية النهائية للمسألة بالاعتراف باستقلالهما في 26 أغسطس من ذلك العام. كما أظهرت روسيا جاهزيتها للتصرف باستخدام القوة إذا اقتضى الأمر".
ويعلق المحلّل السياسي على وضع العلاقات الجورجية اليوم، لافتاً إلى أنه "من الوهلة الأولى، قد يبدو ذلك مفارقة، ولكن الحرب أثرت إيجاباً على العلاقات الروسية الجورجية، حيث أنه بعد سنوات عدة، خرج سآكاشفيلي من السلطة في تبليسي، وسط صعود جيل جديد من القادة يتصرف انطلاقاً من دوافع البراغماتية، ولم ينضم إلى العقوبات ضد روسيا، بل تم استئناف حركة الطيران بين البلدين، لتصبح جورجيا محطة لترانزيت الروس في طريقهم إلى أوروبا".
تجدر الإشارة إلى أن الحرب في جورجيا استمرت حتى بدء الهدنة في 12 أغسطس 2008، حين توجه الرئيس الفرنسي آنذاك، نيكولا ساركوزي، إلى موسكو، واتفق مع مدفيديف وبوتين الذي كان يتولى آنذاك رئاسة الحكومة، على مبادئ للتسوية السلمية عرفت بـ"خطة مدفيديف - ساركوزي".
ووسط تبادل أطراف النزاع الاتهامات بالمسؤولية عن وقوعه، خرجت اللجنة الدولية لتقصي الحقائق التابعة للاتحاد الأوروبي في عام 2009، بنتيجة مفادها بأن جورجيا هي التي بدأت الحرب، ولكن بعد أشهر من أعمال استفزازية قامت بها روسيا.
وعلى الرغم من التنديد الأوروبي باعتراف روسيا باستقلال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، إلا أن العلاقات الروسية الغربية استمرت بشكل طبيعي آنذاك، بل واصت تطورها، قبل أن تدخل منعطفاً خطيراً مع بدء الأزمة الأوكرانية عام 2014، وهو منعطف تفاقم على إثر بدء الحرب في أوكرانيا العام الماضي.