عادت الساحة العراقية لتعيش على وقع شبح قديم: تكريس تقسيم البلاد رسمياً، قانونياً ودستورياً وعلى الخريطة، ليكتمل السيناريو الذي بدأ عملياً بالفعل، منذ ما بعد الاحتلال، بصيغة التقسيم بحكم الأمر الواقع. اليوم، على وقع الحروب الطائفية المتنقلة من شمال البلاد إلى جنوبها، يعود الصخب لـ"الخطة باء"، أو ما يُعرف بـ"مشروع بايدن لتقسيم العراق إلى أقاليم سنّية وشيعية وكردية تتمتع باستقلال شبه ذاتي"ويدخل حيّز المناقشات الداخلية في غرف الكتل والأحزاب السياسية العراقية، بعدما كانت حتى وقت قريب، غير قابلة للنقاش أو الطرح. وبموازاة عودة الطرح أميركياً، تتغير حسابات الورقة والقلم، مع تغيير جهات سياسية كان شعارها رفض التقسيم وحتى الفدرالية، موقفها، ولتصبح اليوم عرابة المشروع ورأس حربته داخلياً.
وتتلخّص فكرة المشروع الذي طرحه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن، عندما كان عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية ديلاوير في العام 2006، بتقسيم العراق لثلاثة أقاليم: سنّية وشيعية وكردية، تتمتع باستقلال شبه ذاتي مع الإبقاء على بغداد عاصمة.
ولاقى مشروع بايدن، الذي طرحه على مجلس الشيوخ، رفضاً من إدارة الرئيس الأميركي في حينها، جورج بوش الابن، ومن الجمهوريين، فضلاً عن الأوساط السياسية العراقية السنّية والشيعية، فيما رحّب ممثلو الأكراد بالمشروع. وعاد بايدن، في الأسبوع الماضي، بصفته نائباً للرئيس الأميركي، للإعلان، عبر صحيفة "واشنطن بوست"، أن "الولايات المتحدة تدعم نظاماً فيدرالياً في العراق على أساس ثلاثة أقاليم سنّية وشيعية وكردية".
والجديد الآخر هو أن المشروع القديم ـ الجديد يطل برأسه هذه المرة من بغداد، عبر غرف قيادات وأحزاب سياسية كانت من أشد المعارضين له سابقاً، على اعتبار أنه مشروع لتقسيم البلاد وتفكيكه.
ومع وجود الإقليم الكردي كأمر واقع أصلاً منذ العام 1991، فقد انحصر الحديث حول المشروع بين الأحزاب السنّية والشيعية التي رحّب بعضها، الأسبوع الماضي، بإعادة طرح الفكرة. من بين تلك الأحزاب التي تنقلب موقفها، "الحزب الإسلامي العراقي"، الجناح العراقي لـ"الإخوان المسلمين". فقد حدد الحزب أن أحد شروط دخوله إلى الحكومة المقبلة، هو الموافقة على طرح مشروع الأقاليم في البرلمان للتصويت عليه. كما رحّبت به "الحركة الوطنية" بزعامة أسامة النجيفي، وشقيقه، رئيس البرلمان، أثيل النجيفي، فضلاً عن قيادات في حركة "الصحوة" في الأنبار.
وانطلقت تلك الأحزاب والحركات العربية السنّية في تأييدها المشروع، من أنه يمثّل "الحل الأمثل لكل مشاكل العراق الحالية"، بينما رأت فيه قيادات في "التحالف الوطني" الحاكم (الممثل الأكبر للشيعة العرب) بأنه "مشروع قابل للمناقشة وصادر عن أصدقاء وحلفاء للعراق".
غير أن المشروع يجد مَن يعارضه بشدة من داخل العملية السياسية ومن خارجها، ومن دول مجاورة للعراق، فضلاً عن صعوبة تطبيقه على الأرض بسبب مشاكل جغرافية وتداخل إثني بين الأقاليم المفترضة.
ويُظهر استعراض بنود المشروع على الأرض العراقية، التي ظلّت موحّدة طوال القرون الماضية، أن الإقليم السنّي سيستأثر بالمساحة الجغرافية الأكبر من العراق، إذ سيشمل محافظات نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى والجزء الجنوبي والغربي العربي من كركوك. وهو ما يمثّل 49 في المئة من مساحة العراق، ولا سيما أن الأنبار وحدها، التي تمثّل الجانب الغربي من البلاد، تحتل مساحة 33 في المئة من إجمالي مساحة العراق البالغة 434 ألفاً و290 كيلومتراً مربعاً، وتحاذي السعودية وسورية وتركيا والأردن.
في المقابل، بحسب ما هو مطروح، سيشمل الإقليم الشيعي محافظات بابل والنجف وكربلاء وذي قار والقادسية والبصرة وواسط وميسان والمثنى، التي تمثّل 31 في المئة من مساحة العراق، وتحاذي دول الكويت وإيران والسعودية، بينما يحافظ إقليم كردستان، المستقل عملياً في عدد كبير من النواحي، على مساحة 42 ألفاً و818 كيلومتراً مربعاً، ما يعادل 20 في المئة من مساحة البلاد، ويحاذي إيران وتركيا وسورية.
والملاحظ في خريطة بايدن، أو ما عُرف بـ"الخطة باء"، بعد فشل مساعي الخطة "ألف" في ترسيخ السلطة بيد الحكومة المركزية في بغداد على باقي البلاد، وإعادة الأمن إليها وفق النظام المركزي، أن توزيع الأقاليم العراقية الثلاثة تناسى المكوّنات الثلاثة الأخرى، المسيحية والصابئية والأيزيدية، فضلاً عن القومية التركمانية التي يبلغ عددها أكثر من مليون شخص.
كذلك يتغاضى المشروع عن ذكر المناطق المتداخلة طائفياً، باعتبار أن التقسيم يعتمد أساساً على العرق والطائفة في العراق، إذ لم يتطرق إلى مصير السنّة في البصرة مثلاً، وهم الذين يشكلون 35 في المئة من السكان، ولا السنّة في محافظة واسط وفي بابل وذي قار. كما لم يتطرق إلى وضع العراقيين الشيعة في ديالى ونينوى وصلاح الدين الذين يشكلون عدداً غير قليل.
ويربط مراقبون عراقيون عمليات التهجير المتبادلة الحاصلة حالياً في المناطق السنّية والشيعية، فضلاً عن سيطرة القوات الكردية على سهل نينوى ذي الغالبية المسيحية، ووعد رئيس إقليم كردستان، مسعود برزاني، بإعادة المسيحيين إليها، وسيطرة قوات الجيش في كربلاء على منطقة النخيب المتنازع عليها مع الأنبار، بأنها عوامل مساعدة على تسريع تشكيل تلك الأقاليم.
ويُلاحَظ في التوزيع الجغرافي للأقاليم الثلاثة، التباين أو التفاوت في ثروات كل منها، النفطية والغازية والمعادن، والتي ينص الدستور العراقي للعام 2005 على أنه "لأي محافظة أو مجموعة محافظات الحق في إجراء استفتاء لتكوين إقليم لها يتمتع بحكم إداري ومالي مستقل يستفيد من موارده الطبيعية".
ويستأثر كل إقليم بمورد لا يتوفر في الإقليم الآخر، أو يكاد يكون قليلاً عند الآخر، كالنفط في الجنوب، والمعادن والغاز في الشمال والغرب، والمياه في كردستان، ما يعني أن مسألة الانفصال الكلي أو شبه الكلي، ستفتح إما باب الصراع الكامل، أو التعاون المشترك بين الأقاليم الثلاثة.
ويبدو أن المشروع بمجمله صار واقعاً يُبحث، مستمدّاً قوته من الاحتقان الطائفي ومن يأس الشارع من السياسيين ومن عجز الحكومات المتعاقبة في تحقيق مصالحة وطنية.
ويقول القيادي في "التحالف الوطني" (ذات الغالبية الشيعية)، باقر الزبيدي، إن "الحل هو العمل بالنظام الفيدرالي، ومَن رفض هذا النظام، سيضطر إلى القبول به في الفترة المقبلة لأنه سيكون واقعاً". ويضيف الزبيدي أن "هذا الفصل ليس طائفياً وإنما جغرافياً وستكون له منافع كبيرة"، مؤكداً أن "كتلته لا تدعم مشروع بايدن، وإنما تدعم المواد التي نص عليها الدستور العراقي وأقر وجود نظام الأقاليم في العراق".
في المقابل، يؤكد القيادي في "الحزب الإسلامي" العراقي، محمد الزوبعي، أن "الذهاب إلى أقلمة العراق هو الدواء المرّ الذي لا بد منه". ويضيف الزوبعي، في حديث لـ"العربي الجديد": "نجد أنفسنا أمام مشروع أخطر بكثير من تقسيم العراق إلى أقاليم، فبقاء الوضع على حاله قد يهدد بتشظي البلاد ودخولها في صراع يستمر لسنوات طويلة، ونحن نرى هذا الحل أفضل بكثير ويمنح البلاد أمناً وهدوءاً، ويمنع التسلّط والظلم الذي تعرّض له السنّة على مدى السنوات الماضية من أن يتكرر مستقبلاً". ويدافع الزوبعي عن رأيه قائلاً إنه من خلال "الأقلمة"، سيتوقف "المدّ الإيراني وستتوقف عملية تصدير الثورة الإيرانية".
من جهته، يرى الشيخ عبد الملك السعدي، أبرز رجال الدين السنّة العرب في العراق، أن هذا المشروع "وُلد بخبث لتقسيم البلاد وتدميرها وإضعافها"، رافضاً اعتبار ما يجري أنه صراع شعبي داخل المكوّنات بقدر ما هو "صراع سياسي وتنفيذ لأجندات خارجية متى ما توقفت سيزول كل شيء ويعود العراق إلى وضعه".
وتتّفق مع طرح السعدي "هيئة علماء المسلمين في العراق"، ومنظمات ومجالس عشائرية أخرى اعتبرت مشروع بايدن بمثابة "سايكس ـ بيكو" جديد. غير أن جميع تلك الفعاليات لا ثقل سياسي لها في العملية السياسية يمكن أن يُعتدّ به في مناقشة المشروع. والأمر مشابه عند الفعاليات الشيعية الرافضة للمشروع، وهو ما يظهر من خلال التغييب المتعمّد لها عن هذا الملف منذ عودة طرحه مجدداً في أروقة العملية السياسية والإعلام المحلي.
أبرز النقاط التي يتمسّك بها دُعاة التقسيم هي: القضاء على "الفتنة الطائفية" ومنح كل طائفة حرية سنّ قوانينها النافذة لديها والتمتع بموارد كل منطقة وعدم تشتّتها، رافعين من خلال هذه النقطة شعار "الدخان لأهل البصرة والمال في الموصل"، في إشارة إلى آبار النفط في البصرة، وتوزيع عائدات الإنتاج على المحافظات بالتساوي، فضلاً عن سرعة التنمية في الأقاليم الثلاثة مقارنة ببطء نموه في النظام المركزي.
في المقابل، يرى المعارضون للمشروع، وهم من العرب السنّة والشيعة على حد سواء، أن تحوّل العراق إلى أقاليم هو بداية للتقسيم إلى ثلاث دول مستقلة، ستقع قبله حرب وحمامات دم داخل تلك الأقاليم بسبب الزعامة والسيطرة، كما حدث في التجربة الكردية في التسعينات بين حزبَي "الاتحاد" و"الديمقراطي"، وخارجها في الصراع على المناطق الحدودية المعروفة بـ"المناطق المتنازع عليها".
ويرى هؤلاء أيضاً أن المشروع سيُضعف البلاد وسيطيح بالجنوب العراقي الذي سيتحوّل إلى "محافظة إيرانية" أو "حديقة خلفية لها"، كما سيكون الإقليم السنّي هشّاً أمام طموحات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في إقامة خلافته الإسلامية، معتبرين أن الحل لا يكمن بالتقسيم بقدر ما هو سياسي من خلال إعادة صياغة الدستور، واستبعاد السياسيين الحاليين وإعادة بناء جيش وطني يمثّل كل الأطياف والشرائح.
وتكشف تسريبات من أروقة المنطقة الخضراء، اطلع عليها "العربي الجديد"، أن إيران تبدو مرحّبة بالمشروع، وتعتبره بداية على طريق حل الملف العراقي، في حين تجد السعودية والأردن أن "أقلمة العراق" يمثّل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة. ويقول أستاذ الاجتماع في جامعة بغداد، هادي الغريري، لـ"العربي الجديد"، إن تقسيم العراق إلى أقاليم على أسس مذهبية طائفية، سيجعل كل قوة محلية في تلك الأقاليم تعتمد تلقائياً على الدولة المجاورة لها التي تماثلها في التكوين المذهبي، ما يعني تحوّل العراق إلى ساحة مواجهة بالوكالة بين الدول الإقليمية الكبرى، وهذا سبب تحفّظ السعودية والأردن وحتى مصر على المشروع، بدليل قول الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، قبل أيام، إن مشروع بايدن شر مستطير على المنطقة برمتها".
لكن يبدو أن المسألة لا تكمن في المعارضين أو المؤيدين للمشروع، بقدر ما تتعلق بخطوات جاري العمل عليها بشكل يومي؛ فالمناطق ذات الغالبية السنّية خارجة حالياً عن سيطرة الحكومة المركزية بالكامل، على عكس حال الجنوب الشيعي. والدعم الأميركي المُعلن أخيراً للمشروع، وغياب الأصوات المعارضة للمشروع من المشهد السياسي وسيطرة المؤيدين له على اللعبة السياسية في البلاد، فضلاً عن التغيير الديموغرافي المستمر في تلك المناطق، والاحتقان الطائفي، ويأس الشارع من وجود حل قريب، يجعل مسألة الإعلان عن بدء مناقشات تشكيل الإقليم في العراق رسمياً، مجرد وقت لا أكثر، إلا في حال نجاح حكومة حيدر العبادي بتلبية مطالب الممثلين السياسيين للعرب السنّة، تحديداً إعادة هيكلة الجيش، وإعادة كتابة الدستور، وتحقيق استقرار نسبي في البلاد يُسهم في إفشال المشروع، وهذا ما سيكون منتظراً خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.