منذ الإعلان عن التوصل لاتفاق نووي بين إيران والدول الست الكبرى، منتصف شهر يوليو/تموز الفائت، والداخل الإيراني على المستوى الشعبي يترقب طي مراحل دراسة الاتفاق وإقراره في عواصم الدول المتفاوضة، فدخول الاتفاق حيز التنفيذ العملي يعني رفع الحظر عن البلاد والذي أرهق كاهل الإيرانيين كثيراً.
لكن الساسة في إيران تجاوزوا، منذ مدة، أجواء التفاؤل التي أعقبت الإعلان عن تفاصيل الاتفاق، وبدأوا بخوض معركة داخلية، فمنهم من تحفّظ على بعض التفاصيل، فانطلقت المعركة على أشدها بين نواب البرلمان الإيراني المحافظ بغالبيته والحكومة، على الرغم من أن الاتفاق النووي لا يُعدّ معاهدة دولية، وإنما اتفاق سياسي، ما يعني أن الدستور الإيراني لا يفرض صكه برلمانياً، واللجنة العليا للأمن القومي التي تضم أهم صناع القرار في مؤسسات البلاد هي المسؤولة عن المهمة.
إلا أن نواب البرلمان الذين تقع على عاتقهم مهمة الإشراف على تطبيق الاتفاق، استطاعوا، خلال الفترة الماضية، أن يجدوا مخرجاً لأزمتهم هذه، بمحاولة فرض رقابة أشد على الحكومة والتي خاضت الحوار حول النووي وستكون مسؤولة عن التنفيذ. الجدير بالذكر، أنه منذ الإعلان عن الاتفاق النووي، لم تُطبق أي من بنوده عملياً، فالاتفاق لم يدخل حيز التنفيذ بعد، وتعليق فرض عقوبات غربية جديدة كما تعليق النشاط النووي في إيران وإيقاف التخصيب العالي المستوى مستمر بموجب اتفاق جنيف المؤقت والموقّع عام 2013.
وقد حصلت كل الأطراف ولا سيما إيران والولايات المتحدة، على مهلة، أقصاها تسعين يوماً، لصك نص الاتفاق منذ الإعلان عنه، ومن المفترض أن يجتمع المتفاوضون في فيينا قريباً، لتأطير الأمور. وبعد إقرار البرلمان الإيراني مشروع "التطبيق الحكومي للاتفاق" وصكه المرتقب من لجنة صيانة الدستور، وموافقة اللجنة العليا للأمن القومي عليه، سيُعلن عن بدء تطبيق الاتفاق بشكل أولي، إلا أن تنفيذه بشكل كامل وتام يحتاج لطي مراحل قانونية أخرى في الاتحاد الأوروبي والكونغرس الأميركي، قد تمتد شهرين آخرين، حسب ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية "إرنا" عن رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية علي أكبر صالحي.
لكن ما حدث، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، هو أن النواب شكّلوا في البرلمان "لجنة الإشراف على الاتفاق النووي" لدرس تفاصيله، وتقدّم تقريرها أمام النواب، وترفعه بعد ذلك للجنة العليا للأمن القومي، وهو ما حصل الأسبوع الفائت، وبعد التصويت إيجاباً على التقرير، طرح مشروع "الإجراء الحكومي لتطبيق مشروط للاتفاق النووي" وهو ما يعني أنه مشروع يعطي الضوء الأخضر للحكومة بتنفيذ الاتفاق، لكن بقيود وتحت إشراف اللجنة العليا.
وبعدما صوّت النواب، الأسبوع الفائت، على إعطاء هذا المشروع صفة العاجل لدراسته بشكل سريع، أقروا، الأحد الماضي، المشروع في المجمل، ودرسوا تفاصيله في جلسة علنية، يوم أمس الثلاثاء، فصوّتوا بالأغلبية على المشروع المكوّن من مادة واحدة مقسّمة على تسعة بنود، وملحق بها ملاحظتان.
جاء في مادة المشروع هذه، إن الحكومة تستطيع تطبيق الاتفاق النووي عملياً تحت إشراف اللجنة العليا للأمن القومي مع مراعاة الشروط المذكورة في البنود التسعة، ولعل أهم الشروط، هو ذاك الذي يفرض على الحكومة الإيرانية الانسحاب من الاتفاق في حال إخلال ونقض أي من الأطراف المقابلة لإيران لتعهداتها أو حتى في حال إعادة فرض العقوبات على البلاد. فيتوجب على الحكومة حينها الرد بالانسحاب وباستئناف النشاط النووي سريعاً، وبإيقاف تعليق تخصيب اليورانيوم بنسبة عالية.
اقرأ أيضاً: "وول ستريت جورنال":خلافات أميركا وإيران تتصاعد رغم الاتفاق النووي
بالإضافة إلى ذلك، ينص أحد البنود على السماح برقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية لأنشطة البلاد النووية وفق ما نصّ الاتفاق نفسه، إلا أنها يجب أن تكون رقابة متعارف عليها دولياً، وعلى الحكومة أن تحرص على عدم منح الوكالة أيّ أسرار أمنية، وأن تتأكد من احتفاظ هذه المنظمة الدولية على سرية المعلومات الإيرانية.
فضلاً عن ذلك، يمنع مشروع البرلمان تفتيش المواقع العسكرية الإيرانية إلا في حالات استثنائية ومشروطة، وصلاحية منح هذا الإذن تعود فقط للجنة العليا للأمن القومي. واستطاع النواب بهذه الطريقة إيجاد مخرج لقضية التفتيش التي يرفضها كثير من مسؤولي البلاد، وفي الوقت ذاته قد تضطر لها الحكومة مستقبلاً، ولاسيما أنها تنفذ خريطة عمل مشتركة اتفقت عليها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأبرز نقاطها: حل مسألة الأبعاد العسكرية لبرنامج طهران النووي، والتي ما زالت نقطة خلافية بين البلاد والوكالة، حتى اليوم، وهي نقطة ترتبط بشكل رئيس بموقع بارشين الذي تشكك الوكالة بإجراء تجارب تحاكي تفجيرات نووية داخله، وتنفي إيران بدورها الأمر وتقول إنه موقع عسكري.
من جهة ثانية، فالمشروع يجبر الحكومة على عدم إيقاف تطوير القدرات التسليحية الدفاعية، وهذا ما قد يُشكّل ملفاً خلافياً مستقبلاً وقد يهدد الاتفاق النووي، الذي أبقى على عقوبات التسليح التي تمنع طهران من الحصول على أسلحة غير دفاعية أو على صواريخ باليستية قد تُستخدم لأغراض نووية.
كما أن خلافاً قد ينشأ كذلك بسبب أحد بنود مادة المشروع ذاته، والذي ينص على عدم فتح المجال أمام الولايات المتحدة أو أي طرف خارجي للوقوف في وجه أي محاولات لاختراق إيران سياسياً، أمنياً، ثقافياً وحتى اقتصادياً، وهو ما قد يفتح باب الجدل على مصراعيه مجدداً بين البرلمان المحافظ وبين الحكومة التي سعت طيلة الأشهر الثلاثة الماضية، أي منذ الإعلان عن التوصل للاتفاق، إلى فتح الباب عريضاً أمام استثمارات الخارج.
وعلى الرغم من جدل الساسة المستمر حتى اللحظة، حول بنود عدة في الاتفاق التي رأى فيها بعضهم في الداخل ثغرات معينة، لكن من الممكن القول، إن إيران تسير نحو تطبيق اتفاقها عملياً، على الرغم من الخلاف الدائر والمحددات التي تعترض الحكومة من الداخل نفسه، فما زال بعض المتشددين المعترضين يعتبرون أنه حتى بصك البرلمان للمشروع المتعلق بقضية البلاد الأهم في الوقت الراهن، إلا أن هذا لا يعني أنه مُرضٍ للمرشد الأعلى، علي خامنئي، حسب ما قال رئيس تحرير صحيفة "كيهان" المحافظة حسين شريعتمداري سابقاً، وكرره النائب، حميد رسايي، خلال جلسة أمس الثلاثاء. فيما رد عليه رئيس المجلس، علي لاريجاني، إن المرشد لم يتدخّل في قرار البرلمان.
تصاعد حدة الجدل في جلسة الأمس، دفع وزير الخارجية، محمد جواد ظريف، إلى مغادرة القاعة مباشرة بعد إقرار المشروع، وأمور كهذه لن تنتهي قريباً حتى بتطبيق الاتفاق، ولا سيما أن إيران مقبلة على انتخابات تشريعية، في مارس/آذار المقبل، سيسعى المتنافسون فيها للاستفادة من الملف النووي قدر المستطاع لتحقيق غاياتهم السياسية.
اقرأ أيضاً: البرلمان الإيراني يوافق على الخطوط العريضة لـ"إجراء الاتفاق النووي"