بدأ أداء "جبهة النصرة" في المناطق التي تسيطر عليها بالتحول نحو التدخل في شؤون المدنيين وإلغاء الهيئات والمؤسسات التي تهتم بشؤونهم وتتعارض مع سياستها، أو لا تتبع لها بشكل مباشر، بعد أن عملت الجبهة في الفترة السابقة على إنشاء حاضن شعبي لها من خلال تحقيق انتصارات على قوات النظام والتغاضي عن تطبيق ما تسميها الحدود والتدخل في شؤون الناس. هذا التحول، دفع بالناس إلى الاحتجاج والتظاهر ضد ممارسات "النصرة" والمطالبة بحصر عملها على جبهات القتال. وشهدت الأيام الماضية تزايداً كبيراً في تجاوزات جبهة النصرة بحق المدنيين في كل من محافظتي إدلب وحلب، وتمّت مواجهتها بردات فعل متباينة.
فوجئت سمية، امرأة أربعينية من إحدى قرى ريف إدلب، أثناء سفرها من قريتها لزيارة أقربائها في قرية أخرى، بحاجز لـ"النصرة" طلب منها النزول من سيارة الأجرة التي تقلها بحجة عدم ارتدائها اللباس الشرعي.
تقول سمية لـ"العربي الجديد"، "لم أكن أتوقع أن يوقفني عنصر من الجبهة، ويعلّمني كيفية ارتداء ملابسي، علماً أني كنت أرتدي ملابس عادية، "حجاباً وجاكيت طويلة وبنطالاً، فيما يريدون مني ارتداء خمار وجلباب طويل". وتضيف سمية "شعرت للحظات أثناء نقاشي مع من ادعى بأنه الأمير، أنه قد يأمر باعتقالي في أية لحظة، لكنّه اكتفى بإعطائي كتاباً إرشادياً للمركز الدعوي النسائي من أجل تزويدي بمعلومات حول كيفية ارتداء اللباس الشرعي".
أما في مدينة دارة عزة، في ريف حلب، فقد اقتحم عناصر "النصرة"، قبل أيام، المكتب الإغاثي التابع للمجلس المحلي في المدينة بغية جعله مقراً للجبهة، ثم ما لبثوا أن انسحبوا من المكتب بعد اعتراض أهالي المدينة والمحكمة الشرعية.
المشهد نفسه كان حاضراً في ريف إدلب، بعد أنّ دهمت "النصرة"، يوم الأربعاء، مقرات الشرطة الحرة في مدينتي كفرنبل وخان شيخون وبلدة كفرسجنة، وقامت باعتقال العاملين فيها. صادرت جبهة النصرة المقرات ومحتوياتها والآليات التابعة للشرطة. كما دهمت المحكمة التابعة لـ"الهيئة الإسلامية لإدارة المناطق المحررة" في كفرنبل، واعتقلت كل من كان فيها ومن بينهم المواطنون الذين كانوا يقدّمون شكاوى لدى الشرطة ثم أطلقت سراحهم. وبعدها بساعات أطلقت سراح موظفي هذه الهيئات، بعد توقيعهم على تعهدات بعدم العمل مع هيئات ومؤسسات تتلقى دعماً من الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أو من جهات خارجية. علماً أنّ عمل الشرطة الحرة في المنطقة ينحصر بتأمين الطرقات وبعض القضايا البسيطة، وهي مستقلة ولا تتبع أي جهة سياسية، كما أن عملها لا يتبع مجلس محافظة إدلب ولا المجالس المحلية.
اقرأ أيضاً: جبهة "النصرة" تداهم مراكز الشرطة الحرّة في إدلب
ويقول ناشط من مدينة كفرنبل، فضّل عدم ذكر اسمه، إنّ "عناصر النصرة دهموا اللجنة الأمنية ومخفر الشرطة الحرة في بلدة كفرنبل وأخذوا كل المحتويات. كما صادروا سيارة تابعة للمخفر وثماني دراجات نارية تعود ملكية معظمها للعناصر من دون أن يعرف أحد سبب الاعتقال"، مبيناً أن "العناصر وقّعوا على تعهدات بعدم العمل مع جهة تتلقى دعماً خارجياً، لأنهم لا يريدون التورّط معهم". ويضيف الناشط أن "هناك تخوفاً كبيراً من اقتحام النصرة لمقر راديو فريش وللمركز النسوي في المدينة، وخصوصاً أنّ هناك تهديدات سابقة من النصرة بإغلاق الراديو والتضييق على عمله حتى إنه أصبح يذيع أغاني من دون موسيقى نزولاً عند رغبة الجبهة".
في المقابل، خرجت تظاهرات من مؤيدي بعض الفصائل المعارضة في مناطق عدة في ريف إدلب تحتج على أداء جبهة النصرة، أدت إلى مقتل شخص في مدينة سلقين. وكانت "النصرة" توكل بالمهمات التي تثير استياء الناس إلى فصائل محسوبة عليها، كلواء "جند الأقصى".
ويبدو أن جبهة النصرة بدأت بالعمل فعلياً على إنشاء مناطق سيطرة تابعة لها، من خلال تكتيكات مرحلية تسعى من خلالها للوصول إلى إمارتها المزعومة، مستفيدةً من تجارب كل من تنظيم "داعش" والنظام السوري. فبعد خسارة "النصرة" في محافظة دير الزور وطردها منها على يد "داعش"، تحاول الجبهة منافسة "داعش"، واتباع تكتيكاته نفسها، في امتلاك مناطق نفوذ خاصة واستقطاب أكبر عدد من المقاتلين الأجانب.
انسحبت الجبهة من الهيئات الشرعية المشتركة مع حركة "أحرار الشام"، وأنشأت دور قضاء خاصة بها، وعملت على استمالة بعض فصائل "الجيش السوري الحر" في كل من ريفي إدلب وحلب شمال سورية، (جبهة ثوار سورية، وحركة حزم)، ومن ثم القضاء عليها والاستيلاء على سلاحها، وتحقيق انتصار ميداني مترافق بحملة إعلامية ساهمت في تحسين حاضنتها الشعبية في المنطقة، وخصوصاً بعد السيطرة على معسكري وادي الضيف والحامدية ومشاركتها في "جيش الفتح" الذي حقق انتصارات كبيرة في محافظة إدلب.
كما استفادت "النصرة" من أسلوب النظام في الاعتماد على الشبيحة كمليشيا لا تتبع للجيش بشكل مباشر، لكنّها تنفذ "المهات القذرة" من مجازر طائفية وغيرها. أوجدت النصرة مليشيات تبايعها في الحرب من دون أن تبايعها في إمارتها، فتتبع أوامرها من دون أن تكون تابعة للجبهة، مثل لواء "جند الأقصى" في مدينة إدلب وبعض قرى جبل الزاوية، و"الحزب الإسلامي التركستاني" في جسر الشغور، ومجموعة من الأوزبك في ريف عندان في ريف حلب الشمالي. وجميعها مجموعات متشددة يقترب فكرها من فكر تنظيم "داعش"، يتم توجيهها من قبل "النصرة" للتعامل مع القضايا التي قد تسيء إلى الحاضنة الشعبية لها.
ويؤكد ناشطون في مدينة إدلب، أنّ ممارسات "جند الأقصى" تجاه المدنيين من أسوأ الممارسات مقارنة بالفصائل الأخرى، والأكثر تشدداً تجاه المدنيين، مؤكدين أن النصرة تستخدمهم كعصا تؤدب من خلالها سكان المدينة.
وتزامناً مع تحركات "النصرة"، شنّ طيران التحالف الدولي، يوم الأربعاء الماضي، غارات عدة استهدفت مقراتها وقياداتها في كل من ريف إدلب وحي المهندسين في حلب. كما استهدفت إحدى الغارات سيارة كان يستقلها عناصر الجبهة على الطريق الواصلة بين بلدة سرمدا وقرية كفردريان في ريف إدلب الشمالي، ما أدى إلى مقتل القيادي وخبير المتفجرات أبو إسلام الحموي وستة آخرين.
ويبدو أنّ عمليات التحالف لا تهدف إلى تفكيك "النصرة" كما هو الحال مع "داعش"، وإنما ينفّذ التحالف غارات محدودة ومركزة بدقة عالية، تستهدف قيادات في الجبهة، تؤدي دوراً أساسياً في تقويتها، وخصوصاً القيادات التي أتت من تنظيم "القاعدة" أو ما يعرف بـ"جماعة خراسان". وبالتالي فإن القضاء على تلك القيادات يحدّ من توسع نفوذ "النصرة". كما أنّ التحالف ليس في وارد فتح جبهة مع "النصرة" على الرغم من تصنيفه لها كعدو ثان في المنطقة بعد "داعش". كما أنّ الدخول بحرب مباشرة مع "النصرة"، يتسم بالكثير من التعقيدات المتعلقة في التداخل بين فصائل المعارضة والجبهة وبين الدول التي تنسّق مع "النصرة" وتتحالف مع الولايات المتحدة.
اقرأ أيضاً: عملية لـ"النصرة" بحلب وتضارب حول تقدم "داعش" بريف الرقة