مع مرور الوقت واختفاء أجيال اليهود العرب الذين يتقنون العربية، سعت السلطات الإسرائيلية إلى الاحتفاظ بمخزون ممن يجيدون اللغة العربية، عبر تعليم اللغة العربية في المدارس الرسمية. لكن اللغة العربية كانت موضع استهتار، ولم يقدم عليها عادة إلّا يهود من أصول شرقية، كونها مألوفة لديهم، ومدخلاً يمكن الحصول من خلاله على درجة عالية في الامتحانات التوجيهية.
على الرغم من ذلك، لم تهمل الأجهزة الإسرائيلية موضوع تعليم اللغة العربية، لكنها لجأت إلى الترغيب في تعلّمها عبر توصيفها بأنها مدخل لـ"معرفة العدو أولاً، وأداة لإحباط التهديدات والأخطار التي تحيط بإسرائيل"، على الرغم من أنّ عدداً من أساتذة اللغة العربية من اليهود الشرقيين، حاولوا، بفعل أصولهم العربية، مثل مجموعة من الأساتذة العراقيين، كشموئيل موريه، وشمعون بلاص، وموشيه شارون، ومئير حداد وآخرون إيفاء العربية حقها، ربما أيضاً بغية الرفع من مكانة تخصصهم فيها.
وقد كشفت صحيفة "هآرتس" في تقرير لها، أمس الجمعة، أن النظرة العسكرية والأمنية لا تزال مسيطرة في التخطيط الإسرائيلي لتعليم اللغة العربية، خصوصاً في المرحلة الإعدادية، وعبر استخدام جنود نظاميين، ما يزيد من الهالة الأمنية والحاجة القومية لدراسة العربية.
وبحسب التقرير، فإن الدروس التي يعطيها الجنود في المدارس الإعدادية الإسرائيلية تبدأ مثلاً بمطالبة التلاميذ بتقديم المساعدة لإحباط عملية وردت إخباريات بشأنها.
كما يُطلب من التلاميذ فكّ رموز المعلومات المتوفرة، ومحاولة فهم وترجمة مقاطع صوتية أو نصيّة من التحذيرات بشأن العملية، وانتهاء بتقديم الشكر لهم لأنهم ساهموا في منع عملية كانت ستؤدي بحياة زملائهم في المدرسة.
وتقول الصحيفة في تقريرها، إنّ هدفاً أساسياً من بين مجموعة أهداف تسعى وزارة التعليم الإسرائيلية وسلاح الاستخبارات العسكرية إلى تحقيقه من وراء فعاليات تعليمية كهذه، هو جعل التلاميذ "يدركون أهمية اللغة العربية"، وقد تم اختيار أسلوب الترهيب أداة لتحقيق هذه الغاية. وعلى الرغم من أنّ الاستخبارات العسكرية "أمان" تملك وحدة خاصة للجنود الدروز من الداخل الفلسطيني الذين فرضت عليهم الخدمة الإلزامية، إلّا أن المؤسسة الإسرائيلية تسعى إلى توسيع نطاق متعلمي العربية كأداة في خدمة إسرائيل، وليس كلغة وثقافة.
وفي هذا السياق، يكشف عميد كلية الأدب في جامعة حيفا، رؤبان شنير، أنّ شعبة الاستخبارات الإسرائيلية دأبت على مرّ السنين على تطوير وتأهيل "لحم للاستخبارات العسكرية"، فيما يشير التقرير إلى أنّ وحدة الاستخبارات النخبوية 8200 هي التي تتولى هذه المهمة، وتوفّر المرشدين من الجنود لتمرير هذه الفعاليات في المدارس.
اقرأ أيضاً إسرائيل: التآمر السياسي والدبلوماسية الجماهيرية للتواصل مع العالم العربي
ويتدرب التلاميذ خلال حصص اللغة العربية للصفين الثاني والثالث إعدادي، على محاولات لفك رموز الرسائل التحذيرية، وفك رموز محادثات مسجّلة بالعربية، والسعي للكشف عن موعد العملية، وكل ذلك بعد محاولة تحديد مكان تنفيذ العملية عبر فك رموز لغز كلمات متقاطعة. وبحسب التقرير، فإن هذا الأسلوب المتبع في تدريس اللغة العربية، هو نتاج إخضاع تعليم اللغة العربية في إسرائيل للاحتياجات الأمنية والعسكرية وبفعل العلاقة الوثيقة بين وزارة التعليم وبين الجيش الإسرائيلي. من هنا، فإن التعليم في الصفوف العليا يتضمن تخصصاً في مجمل التهديدات مع استعراض مزهو بالفخر لعمليات التصفية والاغتيالات التي نفّذها الاحتلال بحق ناشطين ومقاومين فلسطينيين، بل وحتى تمرير دروس عن خطر الأنفاق ودرس يتضمن شرحاً لعملية اغتيال الشهيد خليل الوزير، المعروف بـ"أبو جهاد" في تونس.
ويلفت التقرير إلى أنّ باستطاعة التلاميذ أن يختاروا في الصف الأول ثانوي، دروساً عن اغتيال الشهيد يحيى عياش، أو حتى أن يختاروا في مرحلة الثاني ثانوي، التخصص في تأثير الميراث الإسلامي على أنماط عمل حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) وحزب الله، بل وحتى عن كيفية تصفية الأمين العام السابق لحزب الله، عباس الموسوي أو درساً حول الجهاد المسلّح المتصاعد في أوروبا".
ويشير التقرير إلى دراسة جديدة أعدّها الدكتور يونتان مندل، تكشف أن هذا التمازج والانسجام بين وزارة التعليم الإسرائيلية والجيش الإسرائيلي لم يبدأ في الفترة الأخيرة بل هو قائم منذ عشرات السنين، إذ تكشف وثيقة تعود للعام 1956، وضعها مستشار رئيس الحكومة الإسرائلية للشؤون العربية، يهوشفاط هركابي، أنّه يجب مع تخرّج التلاميذ أن يتخصصوا الاستشراق في المدارس، لـ"ضمان تطوير كوادر قادرة على تبوّؤ مناصب ووظائف في الشؤون العربية، وهو ما يلزم ملاءمة هذه الأجهزة التعليمية لهذه الاحتياجات الخاصة".
وكان هركابي قد أصبح لاحقاً جنرالاً وشغل منصب رئيس شعبة الاستخبارات (أمان) وعمل محاضراً للعلاقات الدولية في الجامعة العبرية حتى وفاته قبل نحو عشر سنوات، واشتهر باختصاصه في حرب العصابات.
وورد في كتاب مندل، أنّه بعد 8 سنوات، أبلغ مفتش اللغة العربية للمعلمين بالمدارس اليهودية، أنّه على "ضوء الطلب المتزايد من الجيش، بادر رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أمان إلى عقد لقاء مع وزارة التعليم لتشجيع تعليم العربية". وتكرر الأمر في العام 1976، إذ يورد الكتاب نص وثيقة عن لقاء بين رئيس أمان الجنرال شلومو جزيت، وبين وزير التعليم أهرون يادلين. ويبيّن الكتاب أنّ قسم تطوير دراسة الاستشراق في "أمان" أقيم بعد حرب تشرين 1973. وينقل التقرير في هآرتس، عن أستاذة تعلّم اللغة العربية قولها، إنّ "شيئاً لم يتغير منذ ذلك الحين، ولا يزال الجنود من جهاز الاستخبارات هم من يدرّسون العربية وبأجندة عسكرية صرفة".
وعلى الرغم من أنّ المسؤولين في وزارة التعليم الإسرائيلية، وفي مقدمتهم رئيس لجنة موضوع العربية، أبراهام شلوسبيرغ، أشاروا إلى أنّ تعليم اللغة العربية تحرّر منذ مدة من تأثير الجيش واحتياجاته، خلال جلسة للجنة التربية والتعليم التابعة للكنيست العام الماضي، إلّا أن "هآرتس"، لفتت إلى أنّ البروفسور ذاته، كان أول من عارض خطوة وزير التربية والتعليم الإسرائيلي السابق، شاي بيرون بإلغاء إلزامية تعليم اللغة العربية، إذ اعتبر شلوسبيرغ أن قرار بيرون يمسّ بأمن الدولة.
ويكشف كتاب مندل بحسب التقرير، أن الخط الموجّه في تعليم اللغة العربية، كان ولا يزال كما هو عليه، "باعتبارها لغة نسمعها ونترجمها، وليست لغة وثقافة نقرؤها". هكذا تبلور جهاز كامل يمثل فيه العربي الغريب، فيما يعتبر رجال جهاز الاستخبارات شركاء طبيعيين، وهذا ما يفسر عدم توظيف وزارة التعليم الإسرائيلية معلمين عرباً لتعليم اللغة العربية في المدارس اليهودية. وتبين أن الوزارة توظّف 1317 أستاذاً للغة العربية في المدارس اليهودية بينهم 127 شخصاً من العرب. ويتضح أيضاً أن المنهج المعمول به، يكاد لا يعلّم الطلاب تحدّث اللغة العربية، إلا قليلاً، بحسب الكتاب.
اقرأ أيضاً: تطبيق "ويز" يبعد الإسرائيليين عن الأحياء العربية في القدس