جاء التقرير الاستراتيجي السنوي لمركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، الذي صدر أخيراً، بالتزامن مع المؤتمر السنوي التاسع للمركز، متضمناً نظرة صناع القرار في كيان الاحتلال للتغييرات الإقليمية في المنطقة، وتداعيات الاتفاق النووي الغربي مع إيران، والتحديات الداخلية في (إسرائيل)، وفي مقدمها ميزانية الأمن، والاستراتيجية الجديدة لجيش الاحتلال، (المعروفة بـخطة غدعون الخمسية). مع ذلك، برزت في التقرير، هذا العام، تساؤلات عن اتجاهات الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني في ظل الانتفاضة المتواصلة، وتساؤلات عما إذا كان الصراع يتجه إلى تغليب الديني على القومي، فضلاً عن مسألة "خطر" التيارات السلفية المتشددة على إسرائيل، مما قد يلزمها بضرورة وضع هذا "الخطر" في المرتبة الأولى بسلم اهتمامات إسرائيل.
الطابع القومي هو الطاغي
تشير الورقة الخاصة بمحاولة استشراف طبيعة الانتفاضة الفلسطينية الحالية، مع تكرار الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد الأقصى، إلى أن مجريات العمليات الأولى وطبيعتها، وانتماءات ونزعات منفذيها، تعزز للوهلة الأولى الانطباع بأن البعد الديني المرتبط بالمسجد الأقصى هو العامل الأساسي، أو المسبب الأول والرئيسي للعمليات الفلسطينية، ولا سيما أن غالبية منفذي هذه العمليات قالوا أو كتبوا على مواقع الشبكات الاجتماعية، إن ما دفعهم لتنفيذ عملياتهم هو المخططات الإسرائيلية لتطبيق تقاسم زماني ومكاني في المسجد الأقصى على غرار ما قامت به إسرائيل في الحرم الإبراهيمي في الخليل. وما يعزز هذا الانطباع والتوجه، هو كون غالبية منفذي العمليات والمشاركين فيها ليسوا من الشباب المتدين أو ممن ينتمون لتيارات وحركات إسلامية. مع ذلك، فإن هذا البعد الديني بحسب واضع الورقة، الباحث كوبي ميخائيل، قد تعزز حسب ادعائه بفعل تأثير عمليات ونشاط تنظيم الدولة الإسلامية "داعش". مع ذلك، يقر الباحث ميخائيل إنه على الرغم من أهمية البعد الديني، وما أثاره هذا الطابع الأولي من اتجاه الصراع الإسرائيلي ــ الفلسطيني إلى نقطة تحوله من صراع قومي إلى ديني، إلا أن الواقع يشير إلى عكس ذلك، وإن كان البعد الديني يجد له تعبيراً بارزاً بفعل المكانة الخاصة للمسجد الأقصى.
ويذهب ميخائيل إلى القول، إن الشباب الفلسطيني المنتفض منح، في ظل هذه الهبة، قيمة أكبر للجانب القومي الوطني للمسجد الأقصى، من رمزيته الدينية. وعزز هذا الأمر لدى الشباب الفلسطيني الشعور بوجود بديل يمكن عبره تحقيق إنجاز وطني مغاير لجيل دفعه اليأس من تحقق أمانيه القومية، ومن تحقيق الذات في ظل الأوضاع الراهنة. فهم، أي شباب فلسطين اليوم، وبفعل حالة الهستيريا التي ألمت بإسرائيل في الأسابيع الأولى من الانتفاضة، يمكنهم أن يقدموا إنجازاً بالاستعانة بالسكين، بينما لم يتمكن جيل الآباء من تحقيقه، كما أنه تفوق، أيضاً، على القيادة الفلسطينية على الرغم من استراتيجية التدويل، من جهة، والمقاومة الشعبية من جهة ثانية، بنفس حجم قدرتهم على تحقيق إنجاز عجزت حركة "حماس" عن تحقيقه بواسطة الكفاح المسلح، بحسب ما كتب ميخائيل طبعاً.
ويلخص ميخائيل قراءته لهذا البعد من الانتفاضة بقوله إن "البعد القومي للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي لم يخل مكانه لصالح البعد الديني، بل إن البعد الديني تحول إلى دافع ومحرك للفلسطينيين للتوجه للمقاومة العنيفة".
"خطر" الجماعات المتشددة
أما في ما يتعلق بالموقف الإسرائيلي من تشخيص مدى الخطر الذي تشكله التيارات الحركية السلفية المتشددة، وخاصة "داعش" و"القاعدة"، فإن الباحثين شلومو بروم ويورم شفايتسر يعتبران في مقالة خاصة ضمن تقرير التحديات الاستراتيجية، أن هذه التيارات والحركات التابعة لها باتت تحتل عملياً، المرتبة الثالثة في سلم الأخطار الأمنية والتحديات التي تواجهها إسرائيل بعدما زال خطر الجيوش التقليدية. وبحسب الباحثين المذكورين، فإن خطر هذه التيارات والحركات قد زاد بشكل ملموس، وارتقع منسوب الخطر الكامن فيه منذ الزلزال الذي هز العالم العربي في العام 2011، (أي الثورات العربية)، وظهور "داعش" وتكريس قواعده في العراق وسورية لدرجة أدت إلى ترسيخ الاعتقاد، أن تنظيم "الدولة الإسلامية" بات الخطر الأساسي الذي يجب مواجهته والتصدي له.
مع ذلك يقر الباحثان أن درجة الخطر التي مثلتها التيارات المتشددة وتنظيم "داعش" لا تزال، حتى الآن، متدنية، كونها تنشط بالأساس حالياً في جبهات بعيدة عن إسرائيل. والسبب الثاني لهذا الاعتقاد أو ما يعزز هذا الاعتقاد بحسب الباحثين، هو تراجع المخاوف من تطورات سلبية على استقرار الأردن، بعدما أبدى النظام هناك مناعة وقوة كبيرتين. وإلى هذين السببين يضيف الكاتبان، أنه على الرغم من الالتزام العقائدي لدى هذه التيارات والحركات المتشددة في محاربة إسرائيل، إلا أن ذلك لا يحتل في ظل الصراعات والحروب الداخلية بينها، مرتبة متقدمة.
اقرأ أيضاً: مؤتمر "أبحاث الأمن القومي": إسرائيل عاجزة عن ردع المقاومة
السيناريو الأول الذي يعتبره الكاتبان نقطة انطلاق أو تحول في سلم أولويات هذه الحركات تجاه كيان الاحتلال، هي في حال اتجه النزاع في سورية إلى التقسيم، عندها قد يوجه "داعش" والحركات السلفية المتشددة الأخرى بوصلتها صوب (إسرائيل) مع تنافس في إبداء العداء لها. في حال تحقق مثل هذا السيناريو، واقترب تنظيم "الدولة" من جنوب سورية، فقد يسبب ذلك في إسرائيل ضغوطاً داخلية للتدخل في سورية، من جهة، أو دفع حكام تل أبيب للتدخل في الأردن إلى جانب النظام في حال تعرض النظام الأردني إلى ضغوط من "داعش". أما الاحتمال الثالث الذي قد يدفع إسرائيل لرفع درجة الاهتمام بأمر التيار السلفي المتشدد، فهو تراخي اليد المصرية في سيناء، على حد تعبير شلومو بروم ويورم شفايتسر.
ويصل الكاتبان إلى أن الاستنتاج الرئيسي: في ظل الاتفاق النووي مع إيران ورغبة الأخيرة في الامتناع عن خرقه، حتى لا تخسر ثماره، وبالتوازي مع سياسة إسرائيلية تقلل من نقاط الاحتكاك والتوتر والمواجهة الشاملة مع إيران وحزب الله، فإن على إسرائيل أن تأخذ بعين الاعتبار أن صداماً مع التيار السلفي المتشدد (وتنظيم الدولة الإسلامية) هو احتمال وارد جداً وتزداد احتمالات وقوعه وتحوله إلى أحد أهم الأخطار التي قد يتعين عليها مواجهتها في المستقبل، حتى وإن كان هذا مرهوناً بمدى نجاح الجهد الدولي والإقليمي للقضاء على "داعش"، تبعاً لسيرورة تطور الملف السوري، من جهة، ومدى قدرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على إعادة فرض السيادة المصرية في سيناء، من جهة ثانية، بالتوازي مع التطورات الداخلية المستقبلية في الأردن، وهي كلها ميادين لا يزال عدم اليقين بشأنها هو السائد.
اقرأ أيضاً: ارتباك إسرائيلي بتحديد الأخطار الاستراتيجية... من إيران إلى "داعش"