ترقّب الأميركيون مساء الأحد المناظرة الثانية بين المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة، دونالد ترامب، ومنافسته عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، لعلّهم يتمكنون من المفاضلة بينهما، لكنّ النتيجة أتت مخيبة.
لم يعرض المرشحان سوى تراشق تحوّل إلى حفلة "نشر غسيل"، كان ترامب بطلها بامتياز، كعادته، ما زاد من مكاسب كلينتون، فترامب لا يتقن غير هذه اللغة أصلاً. وفي الأيام الأخيرة بات يتصرّف بحالة يأس. المزيد من قيادات حزبه تنفضّ من حوله. رصيده هبط بدرجة تبشره بهزيمة شنيعة، بعد الفيديو الذي يكشف إهانته للمرأة، فصارت كلينتون متقدمة عليه بأكثر من عشر نقاط. فجوة "قاتلة" عند هذه المحطة من الحملة الانتخابية.
لكنّ هبوط ترامب الانتخابي ليست مسألة شخصية معزولة. إنه وليد حالة الهبوط والتردّي السياسي العام في الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الراهن. هذا الانحدار كانت بداياته سابقة للحملة الانتخابية. لكنه بدا بصورة نافرة خلالها وأخذ عدة تجليات، شملت الحزبين، ولو بدرجات متباينة. حالة الجمهوري بائسة أكثر بكثير من حالة الديمقراطي، الذي ما زال على قدر ملحوظ من التماسك.
الحزب الديمقراطي يحكمه التردد. خاصة في السنوات الأخيرة. الرئيس باراك أوباما هو الرمز الأبرز لهذه الحالة، وقد تجلّى تردده أساساً في السياسة الخارجية، بالرغم من رقي مقاربته العامة في هذا المجال. سنحت للرئيس ظروف مواتية، وعلى أفضل ما يكون، لتحقيق إنجازات نوعية وفارقة، خاصة في أول عامين من ولايته، الأولى حين كانت الغالبية في مجلسي الشيوخ والنواب بيد حزبه الديمقراطي. لكنه آثر أنصاف الحلول، مثل الضمان الصحي، أو اختار البقاء على واقع الحال، كما في الإصلاحات الضريبية وغيرها.
المأخذ على أوباما أنه كان يتمتع بتفويض وازن، وما زال، بيد أنه لم يعمل على توظيفه كما يجب. فضّل الاستمرارية على إحداث النقلات النوعية، أو ما أمكن منها. خيار أدى إلى تبنّي الحزب لترشيح كلينتون.
عندما صعد نجم السناتور بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية، وكاد أن يخطف الترشيح، استنفر الحزب كافة أجهزته وأدواته وانحاز بقوة إلى كلينتون، للحيلولة دون فوز ساندرز، مع أنهّ هو رجل "التغيير المطلوب". انحياز الحزب انكشف وأدى إلى طرد من كانت تتولى الموقع القيادي فيه، والذي يوازي منصب أمين عام الحزب. فساد في قمة التنظيم... وفي جسمه.
لكنّ حالة الديمقراطي على علاّتها تبقى مقبولة، مقارنة بوضع الجمهوري المتشظي، والذي لم يقو على الحكم. اكتفى بالمناكفة والمشاكسة. ليس هذا فحسب، بل تحوّل إلى أجنحة وشلل، منها من يتشبث باستحضار الماضي في السياسة المحلية، ومنها من يصرّ على الانكفاء في الداخل، وآخر لا يقوى على مغادرة مناخات الحرب الباردة.
تشكيلة تفكّكت معها وحدة الحزب، وربما أعطت الفرصة لترامب ليسدّ الفراغ. وها هو، أي الجمهوري، الآن أمام مأزق صنعته حالة الاهتراء التي يعيشها. ويبدو أنّ معظم قياداته حسمت الآن باتجاه ترك ترامب يغرق وحده، على أن يتمّ الاحتفاظ ما أمكن بالأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب.
لكن حتى بهذه الحدود، تبدو حالة الجمهوري صعبة. آخر استطلاع، بعد فضائح ترامب، والتي يتردّد أن المزيد منها على الطريق، تفيد بأنّ 49% من الأميركيين يفضّلون كونغرس ديمقراطياً مقابل 42% لصالح آخر جمهوري. مرشح هذا الأخير فشل وبشكل بائس، في تقديم نفسه بصورة تعوّض بعض الشيء عمّا فاته في المناظرة الأولى، وتخفّف من النظرة السلبية التي تركها غروره وشططه وعنصريته.
لكنّ الطبع لدى ترامب غلب التطبع، فالمرشح الجمهوري لا يقوى على مغادرة خطاب التجريح والدونية. جعل من لغة التهشيم مهنة. راهن كالعادة على سلاح التشويه والتبشيع بكلينتون التي أعطته هي الأخرى بعض الذخيرة. وبذلك تبشّعت المنافسة ومعها العملية الانتخابية.
القوة العظمى تشكو من رخاوة في المفاصل. أميركا بحاجة إلى تغييرات. لكنها غير جاهزة. تبدو سائرة مع كلينتون نحو تجديد الستاتيكو. وصفة للمزيد من التأزم الداخلي والارتباك الخارجي. صحيح أنّ الديمقراطية الأميركية اعتادت على تجاوز كبواتها. تملك حيوية قادرة على التجديد. لكن ليس الآن. وصول ترامب إلى حلبة الترشيح الرئاسي... أبلغ تعبير عن هذا الانحطاط.