ترتسم حالة من الجمود على الأوضاع في دولة جنوب السودان في ظل غياب المبادرات السياسية الحقيقية لحل الأزمة هناك، والتي تفاقمت بعد أحداث القصر الرئاسي في يوليو/تموز الماضي وما تبعها من اتهام وجهه زعيم المعارضة المسلحة، رياك مشار، للرئيس الجنوبي، سلفاكير ميارديت، بمحاولة اغتياله. وسبقت انفجار الأزمة تطورات عدة أدت إلى انهيار مبكر لاتفاقية السلام التي وقعها الفرقاء الجنوبيون في أغسطس/آب 2015، والتي عيّن مشار، بموجبها، نائباً أول للرئيس في دولة الجنوب. ويتخوف مراقبون من تدهور الوضع في جنوب السودان، ولا يستبعدون أي احتمال بما في ذلك الدخول بحرب إثنية طاحنة، أو إقرار صيغة الوصاية الدولية لاحتواء الأزمة، وذلك عبر تفويض دول في الإقليم القيام بالمهمة.
وقال المحلل السياسي، دينق دينق، لـ"العربي الجديد"، إن مشار فقد الآن الكثير من الأوراق الرابحة، وبات محاصراً بالاتهامات الدولية والإقليمية. وتوقع أن يزداد وضعه سوءاً في حال نجحت محاولات حكومة جوبا والجهود الدولية والإقليمية في دفع الخرطوم إلى إيقاف الدعم الذي تقدمه لمشار، لا سيما أن الرجل يمثل ورقة في يد الحكومة السودانية للضغط على جوبا من أجل تحقيق مصالحها، وفق المحلل نفسه. ولفت إلى أن الأقطاب الإقليمية و"الهيئة الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا" (إيغاد) تتهم مشار "بعدم التقييم الجيد للوضع السياسي والإقليمي والدولي". وأضاف أن مشار في ظل الخناق والتطويق الحكومي لقبيلة النوير ومعاناة القبيلة في ما يتعلق بالخدمات وفرص العمل، يفتح الباب أمام الاستقطاب الحاد بينه وبين غريمه، تعبان دينق، الأمر الذي يبشر بحصول انقسام داخل القبيلة تكون نتيجته الحتمية الاقتتال الداخلي، وفق المحلل نفسه.
ويرسم دينق صورة قاتمة لمستقبل الجنوب في ظل الوضع الراهن وفقدان الحكومة في جوبا لثقة المجتمع الدولي بسبب مواقفها وتبنيها خيار المواجهة وجنوحها نحو التركيز على النزاعات الإثنية، مما يؤكد مضي هذه الدولة نحو الحروب، بحسب تعبيره.
وكانت الأطراف المتنازعة في جوبا أكدت عدم وجود أي مبادرة سياسية لحل الخلافات بينهما، باستثناء مبادرة أوغندا التي طرحها الرئيس، يوري موسيفيني، على مشار في الخرطوم في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الجاري. وتتضمن المبادرة خطوطاً عريضة للعودة إلى طاولة التفاوض والاتفاق على خارطة طريق لتنفيذ اتفاقية السلام وفقاً لمعطيات جديدة يتم عبرها تقسيم السلطة والثروة من جديد وإغلاق كافة المنافذ التي سرّعت من انهيار الاتفاقية.
لكن المبادرة الأوغندية التي أكد مشار استلامها خطياً الأسبوع الماضي، لم تطرح على حكومة جوبا التي ترفض رفضاً باتاً الجلوس على طاولة المفاوضات مع مشار. وترى أن أي مبادرة لحل الأزمة أو أي عملية تفاوضية يفترض أن تتم بين مشار وتعبان دينق الذي يتقلد حالياً منصب النائب الأول للرئيس بديلاً لمشار، باعتباره جزءاً من حركة مشار ومثّل رئيس الوفد المعارض إبان المفاوضات بين الطرفين قبيل التوقيع على اتفاقية السلام. وتشير بعض الأوساط الحكومية إلى أن المعارضة المسلحة لا تثق بالرئيس الأوغندي، ما يعيق دور الوساطة التي يطمح إلى القيام بها، لا سيما أن هذه المعارضة تتهمه بشكل متكرر بالانحياز إلى جوبا فضلاً عن العداء التاريخي بينه وبين مشار.
وقال وزير الإعلام الجنوبي، مايكل مكواي، لـ"العربي الجديد"، إن الحكومة لن تفاوض مشار إلا في حالة إلغاء الاعتراف باتفاقية السلام الموقعة بين الطرفين بشكل كامل واعتبار ما تم التوصل إليه في الاتفاقية "كأنه لم يكن"، وفق تعبيره. أي يدعو الطرف الحكومي إلى البدء من نقطة الصفر.
في هذا السياق، يؤكد مراقبون أن حكومة جوبا تريد استثمار انهيار اتفاقية السلام من خلال العمل على إلغائها أو إعادة فتح النقاش بشأنها من أجل فرض شروطها وتحفظاتها السابقة. ويلفت هؤلاء إلى أن الحكومة قبلت بالاتفاقية على مضض. وبعد ضغوط قوية، أكد الرئيس سلفاكير أنه وقع الاتفاقية بسببها دون أن يكون مقتنعاً بأنها ستحرز سلاماً حقيقياً في دولة جنوب السودان.
وغادر مشار الخرطوم أخيراً، بعد رحلة استشفاء استمرت 40 يوماً خضع خلالها للعناية الطبية المكثفة، كما أن المرض لم يمنعه من استثمار وجوده في الخرطوم لترتيب بيته الداخلي وعقد اجتماع لمكتبه السياسي ليعلن من العاصمة السودانية عن الخيار العسكري لإسقاط النظام في جوبا في ظل غياب المبادرات السياسية لحل الأزمة. وأسئلة عديدة تُطْرح مع خروج مشار من الخرطوم التي غادرها إلى جنوب إفريقيا وينتظر أن ينتقل منها، خلال الأسبوع الحالي، إلى إثيوبيا، ومن ثم إلى مناطق انتشار قواته داخل جنوب السودان. فما هو مدى قدرة مشار القتالية على الاستمرار في الحرب مع تزايد حدة الضغوطات عليه إقليمياً ودولياً للتنازل عن السلطة والتزام الصمت طيلة الفترة الانتقالية وإفساح المجال أمام أحد قادة حركته، ممن يثق بهم، لإدارة الفترة الانتقالية في الجنوب؟ وهل يوافق مشار على تقديم تنازل كهذا مقابل أن يسمح له بالترشح لمنصب الرئاسة لاحقاً؟ وإلى أي مدى ستتجاهل الخرطوم الضغوطات التي تواجهها ومحاولة إغرائها دولياً وإقليمياً للعب دور إيجابي في الجنوب والتخلي عن دعم وإيواء المعارضة الجنوبية؟ انطلاقاً من ذلك، وفي حال عدّلت السودان بموقفها وتصرفها، سيخسر مشار المنفذ الوحيد للدعم الذي يتلقاه، ولن يكون من السهل عليه رفض تقديم التنازلات المطلوبة منه، حتى وإن كان يملك أوراق قوة محلية لا يمكن تجاهلها.
في هذا الإطار، تؤكد مصادر داخل الجيش الشعبي في جوبا على تأثيرات مشار على الأرض، مشيرةً إلى تمتعه بقوة كبيرة في الميدان، نتيجة بقاء 95 بالمائة من قواته معه، وعدم انحياز سوى 5 بالمائة لمعسكر تعبان دينق. وتستولي قوات مشار على مناطق جنوبية عديدة وتسيطر على الطرق الرئيسية بين جوبا وياي ونمولي وتوريت، فضلاً عن وجود قوات مؤيدة له ومناصرين في توريت وملكال وغرب بحر الغزال والوحدة. وهذا يعني، وفق المصادر، أن حرب العصابات التي ينتهجها مشار تعد الأخطر ولن يكون من السهل وقفها.
فضلاً عن ذلك، تشير أوساط جنوبية إلى وجود عامل شخصي قد يدفع مشار إلى الذهاب حتى النهاية في المواجهة. ويتعلق الأمر بمعتقداته الشخصية وإيمانه بأسطورة مون دينق التاريخية، والتي تتحدث عن دخول جنوب السودان في حرب أهلية مع السودان الواحد ومن ثم الانفصال والدخول في حرب داخلية تصل إلى مداها، ليعمل رجل من قبيلة النوير على إنقاذ الدولة ومن ثم حكمها. ويؤكد البعض إيمان مشار العميق بالأسطورة وتأثيرها عليه. وحاول الرجل إعادة "عصا" مون دينق من بريطانيا قبل اندلاع الحرب الأهلية في الجنوب. ويرى البعض أن نجاة مشار عدة مرات من محاولات الاغتيال تعزز من اعتقاده بالأسطورة.
وولد مشار عام 1953 وينتمي لقبيلة النوير، ثاني أكبر قبيلة في جنوب السودان. ودرس في بريطانيا، وكان من أوائل الذي التحقوا بالحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق، إذ كان الرجل الثالث في الحركة بعد سلفاكير وقرنق. وانشق عن الحركة عام 1991، وأسّس "حركة استقلال جنوب السودان". ووقع عبرها على اتفاقية سلام مع الخرطوم عام 1997، عرفت وقتها باتفاقية الخرطوم للسلام، لكنه تخلى عنها بعد ثلاثة أعوام وعاد للتمرد من جديد. وانضم إلى حركة قرنق مرة أخرى في عام 2001 بعد جهود أميركية لتوحيد الحركة. وطلب حينها أن يتقلد منصب نائب رئيس الحركة بديلاً لسلفاكير. إلا أن مطالبته لم تجد طريقها للتنفيذ على الرغم من انحياز قادة من الحركه لمطلبه. وهي خطوة يرى فيها كثيرون أنها أسست للخلاف وعدم الثقة بين مشار وسلفاكير، لا سيما أن نظرة الأخير لمشار لم تتغير، إذ يرى أنه خان الحركة بالانشقاق عليها وتوقيع اتفاق مع الخرطوم.
في المقابل، يؤكد المحيطون به خلال فترة تقلده منصب نائب الرئيس أثناء المرحلة الانتقالية وعقب انفصال الجنوب، أن مشار يتميز بالإسراف في المال، إذ كان ينفق الميزانية التي تخصص له لمدة عام في شهر أو شهرين. وفي ما يتعلق بخلافاته مع الرئيس الجنوب سوداني، وإلى جانب جذورها التاريخية التي تعود إلى محاولة مشار الحلول محل سلفاكير داخل الحركة أيام الحرب مع حكومة السودان، قبل التوقيع على اتفاقية السلام الشامل عام 2005، تقول مصادر مطلعة إن "الصراع بينهما تجلى أيام الفترة الانتقالية مع الخرطوم عندما عيّن مشار نائباً للرئيس الجنوبي عقب وفاة جون قرنق، فيما عيّن سلفاكير رئيساً لحكومة الجنوب ونائباً أول للرئيس السوداني عمر البشير وقتها". وتضيف أن الصراع تعمق مع محاولة سلفاكير تجريد مشار من أية صلاحيات في بادئ الأمر، لكن هذه المحاولة فشلت، ورضخ سلفاكير بعدها لضغوطات مورست عليه، فمنح مشار صلاحيات واسعة، أصبح بموجبها يدير الجنوب فعلياً بالنظر لضعف الرئيس سلفاكير كقيادي في السلطة، وهو ما قاد الأخير وقتها لاتهام مشار بقيادة حكومة داخل الحكومة القائمة.