أخيراً، وبعد كثير من التهويل والتحذير والمحاولات الخاوية، قررت أمس إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وقف حوارها مع موسكو حول التوصل إلى صيغة "تعاون" معها في سورية. ردّ الكرملين في اليوم نفسه بالانسحاب من اتفاق "الأمن النووي" المعقود بين البلدين منذ عام 2000، والذي يوجب عليهما تدمير مخزونهما من البلوتونيوم والمقدر بـ34 طنا لدى كلّ منهما.
بإغلاق البابين بين العاصمتين، تكون العلاقة قد وصلت إلى أسوأ درجات التردي بينهما منذ نهاية الحرب الباردة. السؤال الآن هو: هل هي لعبة عضّ على الأصابع لتحقيق أغراض محددة يتم بعدها تنفيس التوتر، أم هي بداية خصومة استراتيجية نهائية، رسم بوتين مسارها ليمضي فيه إلى آخر الشوط، ببناء تحالفات دولية لمواجهة النفوذ الأميركي في غير مكان، وخاصة في الشرق الأوسط؟
بالنسبة إلى سورية، ما أعلنته واشنطن أمس هو في الواقع تسليم بالأمر الواقع، الذي تنوي موسكو فرضه في حلب. إعلانها عن تعليق الحوار ليس سوى غطاء للاعتراف بأن موسكو تنفرد الآن باحتلال كرسي القيادة في سورية.
منذ البداية، كانت واشنطن تدرك أن اتفاق العاشر من سبتمبر/أيلول لن يبصر النور على أرض الواقع. وأفصح الوزير كيري عن ذلك "أمام مقربين منه"، كما نقلت "نيويورك تايمز" في حينه، لكن الإدارة مضت في هذا الخيار الوهمي، لأنها راهنت عليه وحصرت موقفها به. لا هي راغبة في ولا هي قادرة على، في الوقت المتبقي لها (أقل من أربعة أشهر)، الحكم بأن تقدم على خيار آخر، خاصة وأن الانتخابات باتت على الأبواب.
كلام واشنطن عن "بدائل أخرى" يجري استعراضها تبخّر أمس، ليتقلص إلى حدود "النظر بالخطوة التالية"، وفق ما قالت الناطقة في وزارة الخارجية، والتي سارعت إلى التذكير بأن الإدارة عازمة على مواصلة الحوار "مع المجتمع الدولي" بشأن سورية، بعد أن أوقفته مع موسكو، وحرصت على التأكيد على أن العمل ما زال جارياً بصيغة التواصل بين القوات الأميركية والروسية في سورية، لتفادي أي احتكاك جوي.
وسبق أن أوضحت الخارجية، الأسبوع الماضي، أن "أي جهد إضافي أميركي لتسليح قوات المعارضة أو للدخول في المواجهة، من شأنه أن يعطي نتائج عكسية". هذا الموقف أدركته موسكو منذ زمن، وتصرفت على أساسه، ولذا هي تتحكم الآن بالوضع في حلب. أما واشنطن، بإعلانها وقف الحوار من دون أن ترفق ذلك بأية خطوة مكلفة، بدت وكأنها أدارت ظهرها للمدينة، وتركتها تواجه مصيرها تحت القصف المدمر.
الخيارات الأخرى التي تحدثت عنها واشنطن الأسبوع الماضي تأكد، حتى الآن على الأقل، أنها "طبخة بحص". بعد أن كانت موسكو قد أمسكت بالمبادرة منذ تدخلها قبل سنة في سورية، باتت الآن تستفرد بالقرار، كما تؤكده حرب حلب، وواشنطن تسلّم الآن، ولو مواربة، بهذا الواقع الذي يثير الكثير من الجدل، وحتى داخل الإدارة الأميركية؛ لما قد يترتب عليه من مضاعفات إقليمية وجيو سياسية قد تكون مكلفة لأميركا ومربكة للإدارة الجديدة، المتوقع أن تكون "ديمقراطية".
وللتأكيد على الموقع المبادر والمقرر، سارع فلاديمير بوتين إلى إعلان انسحابه من طرف واحد من اتفاقية الأمن النووي، بذريعة أن واشنطن كشفت "عدم قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المحددة في هذا الاتفاق"، وأن "ما تقوم به الولايات المتحدة من أعمال معادية لروسيا يهدد الاستقرار الاستراتيجي".
المهم في القرار، بصرف النظر عن مدى جدارة الحيثية الروسية، هو توقيته. الآن، وفي ضوء الاستئثار بالقرار في سورية، تريد موسكو التأكيد على قدرتها كقوة كبرى، وأنّ بإمكانها التحرك وحدها ومن دون حاجة للتعاون مع الولايات المتحدة، سواء في الشؤون الإقليمية أم الأمنية النووية.
قد يكون الهدف من ذلك هو حمل واشنطن على فك العقوبات ضدها، والتفاهم معها على معادلات أوروبية في الجوار الروسي. لكن يبدو من الحزم، في الحالتين السورية والنووية، أن طموحات موسكو، المرتكزة على نجاحها في إحداث تغييرات في الخرائط والمعادلات في القرم وسورية، أبعد من قضية العقوبات.
ومن التكهنات المعروضة، أنها تسير باتجاه بناء تحالف استراتيجي مضاد لواشنطن، قوامه موسكو – طهران – دمشق، مع الطموح لجذب تركيا إذا ما تفاقمت خلافاتها مع واشنطن؛ كما تطمح لجذب الصين في نهاية المطاف، والتي تحرص موسكو على تعزيز التعاون معها، والذي أخذ صيغة المناورات البحرية المشتركة معها، في الآونة الأخيرة.
توجّه كبير قد لا تقوى روسيا على ترجمته، نظراً لضخامة التزاماته، لكن ثمة خبراء لا يستبعدون توفر القدرة لديها للنهوض بأعباء خطواته الأولية، المتمثلة بالحلقة السورية التي "وإن تحولت إلى مستنقع لها، فإن بإمكان روسيا تحمل تبعاته"، كما يقول السفير الأميركي السابق في سورية، روبرت فورد.
المؤكد اليوم أن المياه العكرة ما زالت كما هي الآن بين واشنطن وموسكو، منذ الانهيار السوفييتي. وإذا لم يكن هناك قلق من التصادم المباشر، إلا أن هناك تخوفاً من انتعاش "حروب الوكالة" بين الاثنين؛ خاصة في منطقتنا التي توفر الأرضية الأكثر خصوبة لمثل هذه الحروب.