لم تعد ساحة باب العمود في القدس المحتلة، مجرد باحة تعجّ بالباعة المتجولين وببسطات الخضار والفاكهة الآتية من قرى القدس والضفة الغربية، محمولة على أكتاف القرويات، ولم تعد مجرد مقاعد من إسمنت كذلك للوافدين إليها، ولا مكاناً يرتاده العشاق في ليل كانون البارد، ليختلسوا في جنباته لحظات عشق وأنس.
تحوّل باب العمود بساحته المؤدية إلى البلدة القديمة من القدس في نظر المقدسيين، إلى ساحة للشهداء طهرت بدمائهم الطاهرة، أو بوابة الأرض إلى السماء، يصعد منها الشهداء من كل أرجاء الوطن المحاصر بالحواجز والعساكر وجدران الفصل العنصرية.
يستحضر أبو اسنينة، في حديثه ما بات يعرف بـ"أسد فلسطين"، وهو لقب أطلقه شباب القدس على الشهيد محمد سعيد محمد علي، من مخيم شعفاط، شمالي القدس، الذي طار في الهواء مثل الأسد قبل أن يطيح ثلاثة من الجنود المتمرسين بالقمع والوحشية والسادية، وفقاً له.
في ركن باب العمود، أو ما يعرف بـ"بوابة دمشق" في نهاية ساحة الشهداء، يلتصق بالمكان أقدم بائع صحف عرفته القدس: إبراهيم شبانة. ينشغل شبانة، وقد شارف على نهايات السبعين من عمره، في ترتيب صحف فلسطين اليومية ومجلات قديمة عربية وأجنبية، ويقدّم نفسه للمارة معترضاً طريقهم إلى القدس العتيقة. يحمل بيمينه ثلاث صحف تتصدّرها صور الشهداء، وصور طفلة لم تتجاوز الخامسة عشرة تدعى راما جعابيص من جبل المكبر، جنوب القدس، اعترضها عساكر الاحتلال وألقوها أرضاً ثم ادّعوا أنه تمّ "إحباط عملية إرهابية". يسخر شبانة من رواية الجنود الإسرائيليين، وقد بدا في المكان كأنه في قفص بعد أن زرعوا في كل شبر فيه حاجزا من حديد، وعلى كل حاجز خمسة من عساكرهم وكلابهم البوليسية، وخيل تمتطيها شرطتهم.
اقرأ أيضاً: عملية باب العامود في القدس... ضربة جديدة للتنسيق الأمني
من هنا مروا، وفي هذه الساحة صنعوا تاريخاً وهوية، وعطروا المكان بدمائهم، يحفظ ثائر الفسفوس، المتحدث باسم حركة "فتح" في مخيم شعفاط، عن ظهر قلب كل الشهداء الذين عرجوا إلى السماء من باب العامود.
"من ينسى فادي علون من العيسوية، ومن تغيب عنه صورة أسد فلسطين محمد سعيد محمد علي، والطفل إسحق بدران، وباسل سدر"، يقول ثائر، مختتماً بالإشارة إلى مسك الختام قبل يومين الشهيدان منصور شوامرة، وعمر عمرو. لا يخفي ثائر، في حديثه لـ"العربي الجديد"، اعتزازه بكل هؤلاء وكثير منهم من أبناء حركته التي "آن لها أن تنفض الغبار عن خياراتها القديمة وأن تلتحم في معركة الدفاع عن شعبها"، كما يقول.
كان الشهيد مهند الحلبي مفجر انتفاضة السكاكين، أول من ارتقى هناك في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، وكان استشهاده فاتحة مرحلة جديدة لتجار الشارع، الذين عوقبوا بالاعتقال والملاحقة وفرض الغرامات المالية العالية عليهم.
أحد أصحاب المحال التجارية من عائلة العجلوني يقول لـ"العربي الجديد"، إنه "ليس أحق من مهند في أن يحمل الشارع اسمه، هو بالنسبة إلينا رمز للشهادة والتضحية، أعاد لنا بعض كرامتنا التي ينتهكها الاحتلال يومياً".
بين ساحة الشهداء في باب العمود، والشارع الذي يحمل اسم مهند الحلبي قوافل من العشاق يأتون القدس من كل فج عميق من الوطن الذي ظن المحتل أن عساكره وحواجزه وجدرانه ستمنع عاشقاً للحياة من أن يواصل الطريق صعوداً إلى السماء، فهي حكاية معراج جديدة تمزق ليل الخنوع، حيث لا تلامس صرخات نساء القدس أسماع من غطوا في سباتهم العميق.
اقرأ أيضاً: الاحتلال ينهي حصاره لبلدة قباطية الفلسطينية