من أكثر القضايا الغامضة العالقة منذ ما قبل انتهاء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، هي قضية اغتيال رئيس وزراء السويد الأسبق أولف بالمه (1927 ــ 1986)، عند الساعة 11 من ليل 28 فبراير/شباط 1986، وبعد 30 عاماً يبقى السؤال ذاته: من قتل بالمه ولماذا؟
منذ تلك اللحظة التي كان يسير فيها بالمه مع زوجته ليزبيت، بعد مشاهدتهما فيلماً سينمائياً في سينما غراند في العاصمة السويدية استوكهولم، بدا الأمر محيّراً. الأسئلة ذاتها تُطرح من ثلاثة عقود، عن الأمن ونظريات المؤامرة وإخفاء بعض الحقائق لدى الشرطة والاستخبارات السويدية، وترك الأمر للتكهنات والتوقعات.
في ذلك المساء أمسك بالمه بيد زوجته، سائرين باتجاه شارع تقاطع النفق الممتد من شارع سفيافيغين، وعلى بعد مئات الأمتار توقفا ليتفرّجا على واجهة محل لبيع الموبيليا "ديكوريما" (بات يدعى كرياتيما)، فتلقّى بالمه رصاصتين من الخلف، أصابت إحداهما مجرى الهواء، وجرى مطلق النار على أثرها في طريق النفق المظلم، وسط صدمة الزوجة. شخصان فقط شاهدا الجاني يركض في طريق النفق، فركضا باتجاه الضحية قبل أن يعرفا من هو، وقد أعلما الشرطة بما شاهدا، ولكن الجاني كان قد اختفى تماماً.
بعد 21 دقيقة على الحادثة، كانت ليزبيت تحاول وقف النزيف، حين مرت طالبة تمريض تدعى آنا هايغ، لتساعد في وقف النزيف وإنعاش القلب. بالصدفة كانت تمر سيارة إسعاف في ذلك الشارع فتوقفت بإشارة من المارة على الرصيف، ولم يكن يدري هؤلاء ولا المسعفون، بأن رئيس وزراء بلادهم صاحب الشعبية الكبيرة، هو الذي ينزف تلك الدماء ويختنق فيها. فقط حين وصل إلى المستشفى عُرفت "شخصية الرجل الذي تعرّض لإطلاق نار وهو يسير مع زوجته". ومع مطلع الأول من مارس/آذار 1986، أُعلن رسمياً عن أن بالمه قد فارق الحياة في مستشفى سابتبيرغ.
صُدمت الدول الإسكندنافية بالجريمة، في أكبر عملية اغتيال سياسي، وبدأ الجميع بطرح الأسئلة والضغط على الأجهزة الأمنية: كيف يسير رئيس وزراء من دون حارس واحد حتى، خصوصاً أن بالمه كان يتعرض لما يشبه حملة التحريض السياسي العنيفة بحقه كشخص؟
في سياق التحقيقات، حصلت الشرطة على "معلومة" عن رجل يميني متطرّف، يدعى فيكتور غونارسون، تفيد بأنه "في الثانية عشرة من منتصف ليل الجريمة، سمعته شابة يتحدث في مقهى مون شيري مع صديقٍ له بكراهية شديدة جداً وألفاظ غير لائقة بحق أولف بالمه، بعد أكثر من نصف ساعة على إصابة بالمه".
اقرأ أيضاً "ديمقراطيو السويد": يمينيّة متعاظمة في اسكندنافيا
في الثامن من مارس، أُحضر غونارسون إلى مخفر الشرطة في استوكهولم للتحقيق معه، ورغم تعرّف الشهود عليه ورغم أن التحقيقات الجنائية، التي لم تكن متقدمة كما هي اليوم، قد أثبتت وجود بقايا بارود على سترته، فقد أُطلق سراحه في 16 مارس، وبُرّئ لاحقاً من التهمة. قُتل غونارسون لاحقاً في ساليسبوري في ولاية كارولاينا الشمالية الأميركية، في 3 أو 4 ديسمبر/كانون الأول 1993، لسببٍ عاطفي، لا علاقة له بجريمة بالمه.
وبعد إطلاق سراح غونارسون، شهدت السنة الأولى لعملية اغتيال بالمه انتقال الاتهام من جهة إلى أخرى، ومن شخص إلى آخر، فلم يُستثنَ أعضاء حزب "العمال" الكردستاني، من العملية بعد أن قتل العديد من المنشقين عن الحزب في السويد من جهة، ولوجود علاقة متوترة بينه وبين بالمه، كون الأخير عمل على إبعاد العديد من الأعضاء المرتبطين بالحزب، من السويد. كما طاولت لائحة الاتهامات، كلاً من الاستخبارات الأميركية "سي آي ايه"، ودولة جنوب إفريقيا، خلال فترة زمن الفصل العنصري (الأبارتهايد)، وجهاز أمن دولة يوغسلافيا السابقة، ومنظمة "يمينيون متشددون" (النازيون الجدد) داخل جهاز الشرطة، والموساد الإسرائيلي وجهاز الاستخبارات السوفييتي (كي جي بي).
تحت ضغط الأصوات المنتقدة لعمل الأجهزة الأمنية، وجدت الشرطة في متهم سابق بالقتل ومدمن مخدرات يدعى كريستر بيترسون، ضالّتها، فاعتقلته في عام 1988 وحكم بتهمة اغتيال رئيس الوزراء، لكن سرعان ما أطلق سراحه في 1989. توفّي بيترسون في 29 سبتمبر/أيلول 2004، بعد أن دخل في غيبوبة في 16 سبتمبر/ أيلول، إثر تعرّضه لضربة في الرأس. وذكرت شائعات، لم يتمّ التأكد منها في ذلك الحين، أن بيترسون كان ضحية عنف الشرطة، كونها حقّقت معه في 15 سبتمبر. وعدا غونارسون وبيترسون، فقد تمّ التحقيق مع حوالي 130 شخصاً في القضية عينها، ويكشف ذلك أن الأجهزة الأمنية والشرطة في مسرح الجريمة، ارتكبت أخطاءً كثيرة، اعتبرها المختصون منذ ذلك الوقت سبباً في تدمير الكثير من الأدلة.
وعلى الرغم من كل تلك النظريات، إلا أن شيئاً أكيداً ظلّ يؤرق السويديين طيلة السنوات التي تلت مقتل بالمه، وتتعلق بأجهزتهم الأمنية والقضائية والسياسية الحزبية، إذ وُجد متهمون سابقون، مقتولين بحوادث غامضة، كما شهدت الأجهزة الأمنية استقالات، مع تبرئة أشخاص لا يزالون محط شكوك لدورهم في العملية.
كان للاغتيال تأثير كبير على الثقة التي كانت قائمة بين مواطني الدولة، التي عاشت "الديمقراطية الاجتماعية" تحت نظام خليط من الاشتراكية والليبرالية، ونظامها الأمني والقضائي. تلك الفترة رُفع شعار "السويد تفقد عذريتها"، وهي تسمية ما تزال تتصدر عناوين الصحف في كل سنة تمر فيها ذكرى الاغتيال من دون أجوبة واضحة.
بعد 30 عاماً، ما تزال "أحجية أمنية وسياسية" تحوم حول عملية اغتيال رئيس وزراء عرف عنه مواقف مخالفة لدول كبرى ومؤيد كبير لحركات الشعوب في تقرير مصيرها، فقد ارتبط بالمه في الذاكرة الإسكندنافية، كأول سياسي دشّن علاقات رسمية مع الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. ومنذ تسلم رئاسة الوزراء في 1976، انتقل ببلده ليكوّن "ثورة في الوعي" تجاه العديد من القضايا، ويعيد المؤرخون المحليون الفضل لبالمه في إخراج السويديين من ترددهم وحيادهم.
شيء أكيد تجمع عليه أطراف عدة في المجتمع السويدي، من يسار ويسار وسط وغيرهم، بأن بصمة الإرث التاريخي لبالمه واضحة في حياة السويديين. والأكيد أن قضية بالمه لا يشملها "قانون تقادم الجرائم"، إذ تبقى قضية مفتوحة على احتمالات عدة وإن أصبح البعض يشبهها بعملية اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي.
اقرأ أيضاً: انتخابات السويد تؤجّج "الإسلاموفوبيا"