يظلّ الخوض في جرائم الاحتلال الإسرائيلي منذ أول جرائم موثقة له خلال حرب النكبة وربما قبل اندلاع الحرب وإصدار قرار التقسيم؛ منذ عمليات العصابات الإرهابية الصهيونية: الليحي والإيتسيل والبلماح، ومنها أيضاً تفجير فندق الملك داود في القدس المحتلة، ومحاولات تفجير السوق في الخليل، واغتيال الكونت فولك برنادوت، ولاحقاً مذابح دير ياسين، إشكالياً ما لم تحكمه بوصلة أساسية تنطلق من الأخذ بهذه الجرائم كأمر مسلّم، "قاعدة" لا "استثناءً"، والوسيلة المفضّلة صهيونياً، في حينه، لبثّ الرعب في قلوب الفلسطينيين، لتسهيل عمليات الطرد والتهجير.
ولعل مناسبة هذا القول ما قد يبدو أنه وقوع في فخ الجدل الإسرائيلي حول أخلاقيات الجيش الإسرائيلي بعد عملية اغتيال الشهيدين عبد الفتاح الشريف ورمزي القصراوي في الخليل قبل عشرة أيام.
بدا الوقوع في الفخ واضحاً في غمرة الانشغال بالشريط الذي وثّق إعدام الشريف، لغياب شريط مصور يوثّق عملية إعدام الشهيدين معاً، رمزي القصراوي الذي استشهد بحسب شريط منظمة "بتسيلم" قبل رفيقه الشريف بلحظات.
ويتجلّى هذا الوقوع في الفخ الإسرائيلي، في تسليط الأضواء إسرائيلياً أيضاً لفترة محدودة، على اغتيال وإعدام الشريف، كجريمة تمّت خلافاً للقانون الدولي، و"خلافاً لأخلاقيات الجيش الإسرائيلي"، مما يعني عملياً الزعم بأن إعدام القصراوي كان "عملية سوية تستوفي كافة الشروط والمعايير التي تبرّئ الجندي الذي نفذها".
ففي أوج الدعم الشعبي والرسمي الذي يحظى به الجندي القاتل، الذي أعدم الشريف، رغم كل الشواهد التي تثبت قتله الشهيد بدمٍ بارد، تراجعت النيابة العسكرية الإسرائيلية عن مطالبتها بتوجيه تهمة "القتل المتعمّد" للجندي القاتل، إلى تهمة "القتل غير المتعمد"، وصولاً إلى احتمال أن ترسو التهمة الرسمية على "إطلاق النار بدون صلاحية، وخلافاً للأوامر"، مما يوحي بعقوبة مخفّفة لاحقاً.
اقــرأ أيضاً
في هذا الصدد، ردّت محكمة الاستئناف العسكرية، أمس الجمعة، التماس النيابة العسكرية الإسرائيلية ضد قرار عدم تمديد اعتقال الجندي قاتل الشريف. وكانت المحكمة العسكرية قد قررت أنه "لا يوجد ما يثبت أن الجندي القاتل أطلق النار على الشهيد الشريف عن سابق إصرار، وأمرت بتحويله لإقامة جبرية في إحدى قواعد الجيش التي لا يخدم فيها، حتى يوم الثلاثاء المقبل".
وبلغ الاستهتار الإسرائيلي في التستّر على الجريمة أوجّه، يوم الخميس، عندما أعلن القاضي، في المحكمة العسكرية تشكيكه حتى بالتحقيق العسكري الأولي للجيش، وصولاً إلى القول، إنه ليس هناك ما يثبت أو يؤكد أن إطلاق النار على الشريف، وهو مُلقَى على الأرض، كان فعلاً بسبب خوف الجندي القاتل، من أن يكون الشريف حمل على جسمه حزاماً ناسفاً.
ومع أن بعض الصحف اعتبرت عبارة القاضي العسكري هذه، صفعة للنيابة العسكرية وتحقيقات الجيش في القضية، التي كانت الغاية منها إبراز عملية الإعدام، باعتبارها "حالة شاذة"، خلافاً مثلاً لملابسات إعدام القصراوي في نفس العملية برصاص جنود آخرين، وعدم نشر أي تفاصيل عن عملية الإعدام المزدوجة، والاكتفاء بإثارة الشكوك حول إعدام الشريف.
مع العلم أن جدلاً دار ويدور في إسرائيل، بين وزير الأمن موشيه يعالون، ورئيس أركان الجيش، الجنرال غادي أيزنكوت، وبين عناصر في اليمين، هم قادة عسكريون سابقون في جيش الاحتلال، حول سبل التعامل مع الجندي القاتل، ومسألة تقديمه للمحاكمة من عدمها، وصولاً إلى حدّ إعلانه "بطلاً قومياً".
إلا أن هذا الجدل يبقى داخلياً في سياق سعي المؤسسة العسكرية إلى الدفاع عن اسمها و"تنقية الجيش" من مجمل جرائم الإعدام الميدانية، عبر اختزالها بجريمة واحدة، في مقابل مطالبة اليمين ومجمل الجمهور الإسرائيلي بتبرئة الجندي ولو بأثر رجعي. وذلك على اعتبار أن ما قام به الجندي، سبق مثلاً وأن قام به يعالون نفسه، عند اغتيال القائد الفلسطيني خليل الوزير (أبو جهاد)، إذ أطلق يعالون بنفسه، بحسب رسالة والدة الجندي القاتل له، ثلاث رصاصات على "أبو جهاد" لتأكيد قتله. وقد سارع أيزنكوت، في ضوء الجدل الحاصل إلى توجيه رسالة جديدة للجنود، اعتبر فيها أن "أهم ما ميّز الجيش الإسرائيلي هو تقديس مبدأ طهارة السلاح".
اقــرأ أيضاً
في هذا السياق، يجد المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، أمير أورن، الفرصة موآتية لدحض أكاذيب أيزنكوت والغوص في تقارير ومحاضر النيابة العسكرية الإسرائيلية، منذ النكبة للدلالة على أن "السلاح الإسرائيلي تلوّث منذ النكبة".
ويوضح أورن أن "أيزنكوت اختار عبر هذه الجملة تبنّي الدعاية الإسرائيلية الكاذبة كلها، التي تُنسَب للجيش الإسرائيلي منظومة أخلاقية رفيعة، تميّزه عن باقي جيوش العالم". ويلفت في السياق نفسه، إلى أن "يعالون الذي يحاول الظهور بمظهر المدافع عن طهارة السلاح، لم يحرك ساكناً عندما كان نائباً لرئيس الأركان السابق شاؤول موفاز. فقد طلب موفاز يومها من قادة وضباط وجنود الجيش، أن ينهوا كل اشتباك بسبع جثث".
وهنا فإن أورن نفسه ومن خلال الإشارة إلى عدم أخلاقيات الجيش، يحاول مساواة جرائم الجيش الإسرائيلي بالجرائم والانتهاكات التي تقع في ميادين الحروب، ككل جيوش العالم، متناسياً أن الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال، وباعتراف أورن نفسه، منذ النكبة، شكّلت وتُشكّل حالة مغايرة عن باقي الجيوش بفعل نشوئه التاريخي من عصابات إرهابية مختلفة، توحدت بعد النكبة في جيش واحد وحظيت بعفو عام عن الجرائم أصدره رئيس الأركان الأول يعقوب دوري.
مع ذلك، فإن تقرير أورن يحمل إضافة جديدة واحدة تكشف أيضاً عمق الدور الذي أداه القضاء الإسرائيلي العسكري والمدني في تبرير الجرائم والفظائع. ما يؤدي بالتالي إلى تخفيف الأحكام المفروضة، عبر صياغة "منظومة تبرير"، مستوحاة على ما يبدو من الفكر الاستعلائي الغربي، الذي يسمح لنفسه بتبرير الجرائم بسيطرة الغرائز، وفق عادات وتقاليد الثأر التي دفعت بجنود تم ضبطهم وتحديد مسؤوليتهم المباشرة عن بعض الجرائم، ولاحقاً وبالاستناد إلى هذه المبررات، تمّت تبرئة ساحتهم، وأحياناً صرفهم من دون إتمام إجراءات قانونية أو محاكمة رسمية لهم.
في هذا الإطار، يعترف أورن بأن جرائم وفظائع الجيش الإسرائيلي منذ النكبة، باتت معروفة، وتشمل مذابح وجرائم مختلفة من قتل الفلسطينيين واغتصاب فلسطينيات وقتل أسرى لبنانيين في 1948، وحتى آخر المذابح والجرائم التي رافقت الحروب الإسرائيلية. كما يكشف عن سلسلة من المحاضر الرسمية لمحاكم عسكرية، تبين مدى تلطخ الجيش الإسرائيلي بدماء الفلسطينيين والعرب عموماً، بما في ذلك الإقرار بجرائم اغتصاب ونهب وسرقة وقتل.
اقــرأ أيضاً
ويستند تقرير أورن إلى بحث ووثائق استصدرها المدعي العسكري السابق في جيش الاحتلال، تسفي عنبار، وإن كان عنبار أبقى طي الكتمان، باعتراف أورن وثائق حساسة لم يتم نشرها. ولكن من بين ما نشر من هذه الوثائق يستدلّ على أن الإجراء السائد كان بالتستر على المذابح والجرائم، أو توفير السبب والمبرر لها بأثر رجعي.
في سياق متصل، تشير وثائق رسمية إلى أنه في أغسطس/آب 1948، أطلق جندي إسرائيلي النار على أسرى عرب في قرية طيرة الكرمل، قرب حيفا، وأهان قائده الميداني، فكان جزاؤه السجن الفعلي ثلاثة أشهر بسبب إهانة قائده، والسجن مع وقف التنفيذ على إطلاقه النار على الأسرى، لأنه قام بذلك "متأثراً بعادات وتقاليد بلده الذي جاء منه". وعُلّل الأمر في حينه، بأن "الجندي قام بذلك، بفعل سورة غضب بعد أن تلقى من أقربائه في المغرب رسالة تفيد بقتل صهره، مما حركه للانتقام والأخذ بالثأر".
والأسوأ من ذلك، أن المحكمة العسكرية، وفي جريمة فظيعة لجندي من نفس الكتيبة، قام بقتل 33 أسير حرب لبنانياً، إلا أنها أصدرت حكماً مخفّفاً عليه، قبل أن يحظى بعفو عام من الرئيس الإسرائيلي الأول حاييم فايتسمان. والمثير أن محضر المحكمة كشف أن القاضي، طلب وجوب إصدار قرار حكم مخفّف، لأنه خلال الفترة التي نفّذ فيها الجندي عمله هذا، وبعدها في مراحل مختلفة لاحقة في الحرب، نفّذ قادة عسكريون وجنود، جرائم قتل مشابهة وأفظع منها، لكنه الوحيد الذي تم تقديمه للمحاكمة.
إجراء آخر لجأ إليه الاحتلال، وهو عدم الاعتراف بقرار المحكمة العسكرية وشرعيته، ومن ثم إلغاء المحاكمة من دون قيام رئيس الأركان بإجراء محاكمة جديدة، كما حدث مثلاً في جريمة قتل شخصين من سكان قرية جاعوني المهجرة. كما أنه وفي إحدى الحالات الأخرى، فإن المدعي العسكري جدعون هاوزر، الذي اشتهر لاحقاً عندما كان المدعي العام ضد الضابط النازي أدولف أيخمان، قد ترك مسؤولية تحديد خطورة جريمة أحد الجنود وما إذا كانت تستوجب تقديمه للمحاكمة، للضابط الميداني للواء عتصيوني.
إلى ذلك، تكشف الوثائق المذكورة مثلاً جريمة اغتصاب فلسطينيتين على يد جنود إسرائيليين بين 29 و30 مايو/أيار 1948، في منطقة عكا، غير أنه تمّ إغلاق الملفات. وقد حدث ذلك أيضاً مع السرية الرقم 11 التابعة للواء غولاني، في نوفمبر/تشرين الثاني 1948، عندما اغتصب الجنود فتاتين عربيتين كانتا ضمن قافلة لفلسطينيين من قريتي ترشيحا ومعليا، وادّعوا لاحقاً أن الفتاتين عارضتا في البداية، لكنهما غيرتا مواقفهما فيما بعد.
وتبيّن الوثائق أنه على الرغم من عدم القبول برواية الجنود، إلا أن العفو العام الذي أصدره رئيس الأركان يعقوب دوري، حال دون تطبيق العقوبات المفروضة عليهم، وعلى جنود آخرين، أُدينوا في المحاكم الأولية العسكرية، بارتكاب جرائم القتل والاغتصاب والسرقة.
في المقابل، يكشف تقرير آخر لجيدي فايتس، نُشر أيضاً في "هآرتس"، أن "رئيس الحكومة الأول لإسرائيل، دافيد بن غوريون، أقرّ بأن جرائم قتل العرب من قبل اليهود، بعد النكبة لا تزال مستمرة، وأنه ما لم يتم إعدام جندي يهودي لقتله عربياً، فإن هذه الجرائم ستستمر، ولن يكون بمقدورنا أن نواجه العالم".
ومع أن هذه الأقوال منسوبة لبن غوريون في جلسة للحكومة الإسرائيلية، عام 1951 لبحث مسألة إلغاء عقوبة الإعدام، إلا أن التقرير يضيف أن تلك الأعوام شهدت موجة من جرائم قتل العرب من قبل اليهود، لأن بين اليهود من يعتقد، باعتراف بن غوريون في الجلسة المذكورة، "أن اليهود من البشر أما العرب فليسوا كذلك وكل ما تفعله ضدهم مباح، وهناك من يعتقد بأن قتل العرب هو فرض".
وينوّه التقرير إلى أن "بن غوريون حاول تبرئة الحكومة الإسرائيلية، بقوله: يدّعي (اليهود) أن كل ما تقوله السلطات (الإسرائيلية) ضد قتل العرب هو مجرد نفاق وتظاهر بمعارضتها، لكن في الواقع فإن قتل العرب يحمل البركة لأن عددهم في البلاد يقلّ، وطالما اعتقدوا ذلك فإن أعمال القتل ستستمر". ويتابع تقرير فايتس "حاول بن غوريون التحفظ من هذا الجوّ بقوله: يعتقد بالتأكيد أنه كلما قل عدد العرب في البلاد كان أفضل لنا وللبلاد، ولكن هل من المعقول أن نسير بهذه الطريق؟".
مع ذلك، وعلى الرغم من المداخلات في جلسات الحكومة الإسرائيلية التي حاول أقطابها التستر وراء "مسوغات أخلاقية" ضد جرائم قتل الفلسطينيين التي انتشرت حتى بعد النكبة، للإبقاء على عقوبة الإعدام، إلا أنه لم تسجل حالة واحدة نُفّذ فيها الإعدام بحق جندي إسرائيلي، أو مجرد مدني إسرائيل قام بقتل فلسطينيين، ومع اعتراف بن غوريون بأن حكم الإعدام قد يكون الرادع لوقف هذه الجرائم إلا أن الحكومة الإسرائيلية ألغت هذه العقوبة رسمياً عام 1954.
في هذا الصدد، ردّت محكمة الاستئناف العسكرية، أمس الجمعة، التماس النيابة العسكرية الإسرائيلية ضد قرار عدم تمديد اعتقال الجندي قاتل الشريف. وكانت المحكمة العسكرية قد قررت أنه "لا يوجد ما يثبت أن الجندي القاتل أطلق النار على الشهيد الشريف عن سابق إصرار، وأمرت بتحويله لإقامة جبرية في إحدى قواعد الجيش التي لا يخدم فيها، حتى يوم الثلاثاء المقبل".
وبلغ الاستهتار الإسرائيلي في التستّر على الجريمة أوجّه، يوم الخميس، عندما أعلن القاضي، في المحكمة العسكرية تشكيكه حتى بالتحقيق العسكري الأولي للجيش، وصولاً إلى القول، إنه ليس هناك ما يثبت أو يؤكد أن إطلاق النار على الشريف، وهو مُلقَى على الأرض، كان فعلاً بسبب خوف الجندي القاتل، من أن يكون الشريف حمل على جسمه حزاماً ناسفاً.
ومع أن بعض الصحف اعتبرت عبارة القاضي العسكري هذه، صفعة للنيابة العسكرية وتحقيقات الجيش في القضية، التي كانت الغاية منها إبراز عملية الإعدام، باعتبارها "حالة شاذة"، خلافاً مثلاً لملابسات إعدام القصراوي في نفس العملية برصاص جنود آخرين، وعدم نشر أي تفاصيل عن عملية الإعدام المزدوجة، والاكتفاء بإثارة الشكوك حول إعدام الشريف.
مع العلم أن جدلاً دار ويدور في إسرائيل، بين وزير الأمن موشيه يعالون، ورئيس أركان الجيش، الجنرال غادي أيزنكوت، وبين عناصر في اليمين، هم قادة عسكريون سابقون في جيش الاحتلال، حول سبل التعامل مع الجندي القاتل، ومسألة تقديمه للمحاكمة من عدمها، وصولاً إلى حدّ إعلانه "بطلاً قومياً".
في هذا السياق، يجد المحلل العسكري لصحيفة "هآرتس"، أمير أورن، الفرصة موآتية لدحض أكاذيب أيزنكوت والغوص في تقارير ومحاضر النيابة العسكرية الإسرائيلية، منذ النكبة للدلالة على أن "السلاح الإسرائيلي تلوّث منذ النكبة".
ويوضح أورن أن "أيزنكوت اختار عبر هذه الجملة تبنّي الدعاية الإسرائيلية الكاذبة كلها، التي تُنسَب للجيش الإسرائيلي منظومة أخلاقية رفيعة، تميّزه عن باقي جيوش العالم". ويلفت في السياق نفسه، إلى أن "يعالون الذي يحاول الظهور بمظهر المدافع عن طهارة السلاح، لم يحرك ساكناً عندما كان نائباً لرئيس الأركان السابق شاؤول موفاز. فقد طلب موفاز يومها من قادة وضباط وجنود الجيش، أن ينهوا كل اشتباك بسبع جثث".
وهنا فإن أورن نفسه ومن خلال الإشارة إلى عدم أخلاقيات الجيش، يحاول مساواة جرائم الجيش الإسرائيلي بالجرائم والانتهاكات التي تقع في ميادين الحروب، ككل جيوش العالم، متناسياً أن الفظائع التي ارتكبها جيش الاحتلال، وباعتراف أورن نفسه، منذ النكبة، شكّلت وتُشكّل حالة مغايرة عن باقي الجيوش بفعل نشوئه التاريخي من عصابات إرهابية مختلفة، توحدت بعد النكبة في جيش واحد وحظيت بعفو عام عن الجرائم أصدره رئيس الأركان الأول يعقوب دوري.
مع ذلك، فإن تقرير أورن يحمل إضافة جديدة واحدة تكشف أيضاً عمق الدور الذي أداه القضاء الإسرائيلي العسكري والمدني في تبرير الجرائم والفظائع. ما يؤدي بالتالي إلى تخفيف الأحكام المفروضة، عبر صياغة "منظومة تبرير"، مستوحاة على ما يبدو من الفكر الاستعلائي الغربي، الذي يسمح لنفسه بتبرير الجرائم بسيطرة الغرائز، وفق عادات وتقاليد الثأر التي دفعت بجنود تم ضبطهم وتحديد مسؤوليتهم المباشرة عن بعض الجرائم، ولاحقاً وبالاستناد إلى هذه المبررات، تمّت تبرئة ساحتهم، وأحياناً صرفهم من دون إتمام إجراءات قانونية أو محاكمة رسمية لهم.
ويستند تقرير أورن إلى بحث ووثائق استصدرها المدعي العسكري السابق في جيش الاحتلال، تسفي عنبار، وإن كان عنبار أبقى طي الكتمان، باعتراف أورن وثائق حساسة لم يتم نشرها. ولكن من بين ما نشر من هذه الوثائق يستدلّ على أن الإجراء السائد كان بالتستر على المذابح والجرائم، أو توفير السبب والمبرر لها بأثر رجعي.
في سياق متصل، تشير وثائق رسمية إلى أنه في أغسطس/آب 1948، أطلق جندي إسرائيلي النار على أسرى عرب في قرية طيرة الكرمل، قرب حيفا، وأهان قائده الميداني، فكان جزاؤه السجن الفعلي ثلاثة أشهر بسبب إهانة قائده، والسجن مع وقف التنفيذ على إطلاقه النار على الأسرى، لأنه قام بذلك "متأثراً بعادات وتقاليد بلده الذي جاء منه". وعُلّل الأمر في حينه، بأن "الجندي قام بذلك، بفعل سورة غضب بعد أن تلقى من أقربائه في المغرب رسالة تفيد بقتل صهره، مما حركه للانتقام والأخذ بالثأر".
والأسوأ من ذلك، أن المحكمة العسكرية، وفي جريمة فظيعة لجندي من نفس الكتيبة، قام بقتل 33 أسير حرب لبنانياً، إلا أنها أصدرت حكماً مخفّفاً عليه، قبل أن يحظى بعفو عام من الرئيس الإسرائيلي الأول حاييم فايتسمان. والمثير أن محضر المحكمة كشف أن القاضي، طلب وجوب إصدار قرار حكم مخفّف، لأنه خلال الفترة التي نفّذ فيها الجندي عمله هذا، وبعدها في مراحل مختلفة لاحقة في الحرب، نفّذ قادة عسكريون وجنود، جرائم قتل مشابهة وأفظع منها، لكنه الوحيد الذي تم تقديمه للمحاكمة.
إجراء آخر لجأ إليه الاحتلال، وهو عدم الاعتراف بقرار المحكمة العسكرية وشرعيته، ومن ثم إلغاء المحاكمة من دون قيام رئيس الأركان بإجراء محاكمة جديدة، كما حدث مثلاً في جريمة قتل شخصين من سكان قرية جاعوني المهجرة. كما أنه وفي إحدى الحالات الأخرى، فإن المدعي العسكري جدعون هاوزر، الذي اشتهر لاحقاً عندما كان المدعي العام ضد الضابط النازي أدولف أيخمان، قد ترك مسؤولية تحديد خطورة جريمة أحد الجنود وما إذا كانت تستوجب تقديمه للمحاكمة، للضابط الميداني للواء عتصيوني.
إلى ذلك، تكشف الوثائق المذكورة مثلاً جريمة اغتصاب فلسطينيتين على يد جنود إسرائيليين بين 29 و30 مايو/أيار 1948، في منطقة عكا، غير أنه تمّ إغلاق الملفات. وقد حدث ذلك أيضاً مع السرية الرقم 11 التابعة للواء غولاني، في نوفمبر/تشرين الثاني 1948، عندما اغتصب الجنود فتاتين عربيتين كانتا ضمن قافلة لفلسطينيين من قريتي ترشيحا ومعليا، وادّعوا لاحقاً أن الفتاتين عارضتا في البداية، لكنهما غيرتا مواقفهما فيما بعد.
في المقابل، يكشف تقرير آخر لجيدي فايتس، نُشر أيضاً في "هآرتس"، أن "رئيس الحكومة الأول لإسرائيل، دافيد بن غوريون، أقرّ بأن جرائم قتل العرب من قبل اليهود، بعد النكبة لا تزال مستمرة، وأنه ما لم يتم إعدام جندي يهودي لقتله عربياً، فإن هذه الجرائم ستستمر، ولن يكون بمقدورنا أن نواجه العالم".
ومع أن هذه الأقوال منسوبة لبن غوريون في جلسة للحكومة الإسرائيلية، عام 1951 لبحث مسألة إلغاء عقوبة الإعدام، إلا أن التقرير يضيف أن تلك الأعوام شهدت موجة من جرائم قتل العرب من قبل اليهود، لأن بين اليهود من يعتقد، باعتراف بن غوريون في الجلسة المذكورة، "أن اليهود من البشر أما العرب فليسوا كذلك وكل ما تفعله ضدهم مباح، وهناك من يعتقد بأن قتل العرب هو فرض".
وينوّه التقرير إلى أن "بن غوريون حاول تبرئة الحكومة الإسرائيلية، بقوله: يدّعي (اليهود) أن كل ما تقوله السلطات (الإسرائيلية) ضد قتل العرب هو مجرد نفاق وتظاهر بمعارضتها، لكن في الواقع فإن قتل العرب يحمل البركة لأن عددهم في البلاد يقلّ، وطالما اعتقدوا ذلك فإن أعمال القتل ستستمر". ويتابع تقرير فايتس "حاول بن غوريون التحفظ من هذا الجوّ بقوله: يعتقد بالتأكيد أنه كلما قل عدد العرب في البلاد كان أفضل لنا وللبلاد، ولكن هل من المعقول أن نسير بهذه الطريق؟".
مع ذلك، وعلى الرغم من المداخلات في جلسات الحكومة الإسرائيلية التي حاول أقطابها التستر وراء "مسوغات أخلاقية" ضد جرائم قتل الفلسطينيين التي انتشرت حتى بعد النكبة، للإبقاء على عقوبة الإعدام، إلا أنه لم تسجل حالة واحدة نُفّذ فيها الإعدام بحق جندي إسرائيلي، أو مجرد مدني إسرائيل قام بقتل فلسطينيين، ومع اعتراف بن غوريون بأن حكم الإعدام قد يكون الرادع لوقف هذه الجرائم إلا أن الحكومة الإسرائيلية ألغت هذه العقوبة رسمياً عام 1954.