لا يختلف اثنان على القول إنّ حنّا غريب الذي انتُخب أميناً عاماً للحزب الشيوعي، "بطل نقابي" منذ عقود. استمرت آخر معاركه لأكثر من عامين بوجه السلطة اللبنانية مجتمعة من خلال تحركات، واعتصامات، وإضرابات هيئة التنسيق النقابية. فما كان من هذه السلطة إلّا أن اجتمعت بمختلف أفرقائها لكسر غريب في "رابطة الأستاذة الثانويين". جمع حنّا غريب خصومه المختلفين على الثورة السورية، و"السلاح غير الشرعي"، و"نهب الدولة"، والمنقسمين بين السنة والشيعة، وحقوق المسيحيين، لكسر لائحته الانتخابية في الرابطة من دون أن تتمكّن من منعه بالفوز في مقعده.
منذ مايو/أيار 2010 إلى الأشهر الأخيرة من عام 2015، تمكّن غريب من قيادة عشرات آلاف الموظفين والمواطنين في الشارع. تحدّث باسمهم وطالب بحقوقهم ونازع السلطة وحقق النقاط ضدها في بلد لا قدرة فعلية للشعارات المطلبية والحملات الحقوقية على الحشد بوجه كل الألوان الطائفية والمحسوبيات السياسية القادرة على ملء الشوارع بخطاب مذهبي أو بحركة إصبع. لكن صورة هذا النقابي بين الناس وزملائه المعلّمين والموظفين في القطاع الرسمي كانت كفيلة بإحداث تغيير ما.
حنا غريب، إبن أفقر مناطق لبنان على الإطلاق، عكار، في أقصى الشمال النائي، خرج من حيّ شعبي مختلط طائفياً في بيروت، لا يعطي اهتماماً كبيراً لتسريحة شعره أو لرسم شاربه، يتصرّف مثل بقية الشعب، وينطق باسمهم وبحقوقهم، مستفيداً من صوته العكّاري، من دون مواربة ولا شعارات في الفضاء. احتلّ الشاشات وزاحم السياسيين إلى أن جاءت الساعة صفر لكسره.
انتهت آخر معارك غريب النقابية بفوز السلطة. ومع مشارفته على سنّ التقاعد (مواليد 1953)، بات بإمكان حنّا غريب أن يعود إلى قيادة حزبه (هو عضو مكتب سياسي في الحزب منذ فترة طويلة) الذي يعرف المعنيون جيداً أنه لم يسانده كما يجب حتى في العمل النقابي والحشد، أو ربما لأن الحزب الشيوعي فعلاً غير قادر على الحشد. وقد يكون وصول غريب اليوم إلى الأمانة العامة في حزبه منطقياً، بدءً من نشاطه السياسي في الشمال وبيروت في السبعينيات بين دار المعلّمين والمدارس الثانوية و"اتحاد الشباب الديمقراطي" (منظمة شبابية صديقة ومحسوبة على الحزب الشيوعي اللبناني)، مروراً بمرحلة العمل الحزبي المباشر والتهديد بالقتل في حقبة الثمانينات خلال موجة الاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية لقياديين شيوعيين وصحافيين ومثقفين، إذ لم يتردّد القاتل، حينها، بتهديد حنّا غريب بصفته "شيوعياً لعيناً"، وصولاً إلى مرحلة انتخابه في المكتب السياسي واللجنة المركزية في الحزب لأكثر من عقدين. اليوم، تنتهي مرحلة نضال حنّا غريب في النقابات، لتكون الحركة النقابية قد خسرت فعلاً وجهاً مؤثراً وفاعلاً.
يحمل حنّا غريب أمل الشيوعيين ببناء حزب فعلّي له هيكلته وجمهوره وخطابه السياسي. ويأمل هؤلاء أن يكون غريب، جورج حاوي آخر، أو نقولا الشاوي، أو حتى فرج الله الحلو (أمناء عامون سابقون في الحزب تمكّنوا من تطوير التجربة الحزبية وتحقيق نقلات نوعية على صعيدَي التنظيم والسياسة). لكن الخوف اليوم من أن يكون حجم الآمال المعلّق على غريب كبير نسبة لقدراته "السياسية الإدارية" ولواقع حزبه. صحيح أنه قائد وقادر على مخاطبة الناس وتوجيه المعارك، لكن، فعلياً، خبرته في هذا الإطار تقتصر على العمل النقابي بوجه السلطة، في حين أنّ المطلوب منه اليوم تدوين خطاب مختلف تماماً كندّ في السياسة المحلية.
ويأتي احتفال الشيوعيين بنجاح المؤتمر التنظيمي وتنصيب غريب ومن معه في قيادة الحزب (الأقدم في لبنان إذ تأسس عام 1924)، وكأنه اختزال فعلي للأزمة التي يعيشها الشيوعيون منذ سقوط جدار برلين ومن قبله أيضاً. فـ"الانقلاب الأبيض"، إذا كان له آثار تنظيمية جيدة، إلّا أنه يبقي الأمور في مكانها على الصعيد السياسي، وفي ما يخص مواقف الحزب وقراءاته السياسية لمجريات ما يحصل في الداخل وعلى الحدود وفي المنطقة. فالصراع بين مكوّنات "الشيوعي" حاصلة في التنظيم فقط، أما في السياسة فلا اختلاف، أي أنّ سلاح حزب الله الموجّه طائفياً في لبنان وضد الشعب السوري سيبقى بحسب القراءة الحزبية سلاح "مقاومة"، والثورة السورية بحسب أدبيات الحزب عبارة عن "مؤامرة صهيونية أميركية داعشية"، كل ذلك مذيَّل طبعاً بنقد ناعم للنظام السوري، لا يرقى لمرتبة أن يسمى موقفاً ثورياً جذرياً.
أمّا الثورات العربية فتبقى أيضاً بحسب معجم الحزب الشيوعي اللبناني محاولة لتقسيم سورية والبلاد العربية وضرب "الممانعة" خدمة لإسرائيل في ظلّ فقدان "حركة التحرر الوطني العربي". كما أنّ الموقف من التدخلات الروسية ستبقى محمودة بوصفها تحارب "الإمبريالية العالمية". هي عبارات موجودة بهذه المعاني وبهذا التفصيل في الوثيقة السياسية المقدّمة في المؤتمر التنظيمي الأخير.
لن يحمل حنّا غريب ورفاقه خطاباً جديداً إلى الحزب الشيوعي، لكونه ابن هذا الحزب وجزء منه وأحد صانعي القرار فيه منذ زمن. وبالتالي، فإنّ الحزب الشيوعي باقٍ في موقعه السياسي إلى جانب حزب الله والنظام السوري (عملياً) ولو استمرّ في إنكار ذلك، ليكون بذلك مشاركاً، ولو من دون فعالية، في الانقسام الطائفي في البلد وعنصراً فيه، وفي التدمير الممنهج للدولة ومؤسساتها، وموافقاً على التعامل بمنطق الأمن والسلاح والتعطيل، على الرغم من كون عنوان الوثيقة السياسية للحزب يشير إلى العمل "نحو الدولة الديمقراطية العلمانية المقاومة".
وكان لافتاً تعليق الباحث الدكتور سعود المولى عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الانتخابات الحزبية، إذ كتب متسائلاً: "ماذا ينتظر الذين خرجوا أو أُخرجوا من الحزب الشيوعي منذ 10 أو 15 أو 20، أو حتى 25 سنة، وبعد ربع قرن على سقوط الاتحاد السوفييتي وخراب البصرة. يتأكد لدي كل يوم أنّ الكثيرين من أعضاء الحزب الشيوعي، كما القومي السوري كما البعثي وغيره، ليسوا أكثر من عشيرة تحكمهم تقاليدها وأعرافها ويخضعون لنظامها من المهد إلى اللحد". يمكن لهذا التعليق أن يلخّص ما حصل داخل الحزب الشيوعي: انتخابات داخل العشيرة الواحدة. لكن لمزيد من التفاصيل، فإنّ انتخاب حنّا غريب أميناً عاماً للحزب الشيوعي يعني أيضاً أنّ الساحة النقابية خسرت "بطلاً" فعلياً من دون أن يقابل هذه الخسارة أي انتصار على المستوى السياسي.