يعكس الغضب الإسرائيلي المُعلن على حزب "العمال" البريطاني، بفعل مواقف عمدة لندن السابق، كين ليفنغستون، أو تصريحات أعضاء آخرين بارزين في الحزب، حجم التغيير السياسي في إسرائيل من جهة وفي القارة الأوروبية من جهة أخرى، في العقدين الأخيرين. وتجلّى التغيير في فقدان أحزاب اليسار الأوروبي، وضمنها "العمال" البريطاني، قوتها الشعبية وتموضعها في المعارضة.
مع العلم أنه في الأساس اعتمدت العلاقات الإسرائيلية الأوروبية، بشكل كبير، بعد قيام دولة الاحتلال، على كون إسرائيل جزءاً من المحور الغربي، على الرغم من وجود حكومة عمالية ترفع شعارات "الاشتراكية" في برامجها وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية داخلياً، واعتمادها مبدأ "التدخل الكبير في حركة الاقتصاد"، وملكية القطاع العام لغالبية الشركات ووسائل الإنتاج.
وقد رشح هذا الأمر الحكومة الإسرائيلية لتكون محط إعجاب لحركات وأحزاب اليسار الأوروبي، تحديداً تلك التي انسلخت عن المنظومة الشرقية وأفكارها، واتجهت نحو مبدأ "الاشتراكية الديمقراطية"، مع تشكيل منظمة الاشتراكية الدولية واعتماد أحزاب اليسار الإسرائيلية عموماً (باستثناء الحزب الشيوعي الإسرائيلي) أعضاء في هذه المنظومة.
وكان لـ"العمال"، وخصوصاً بين عامي 1964 و1979، عندما كان خارج الحكومة، حظوة كبيرة في أوساط الحكم الإسرائيلي. وشكّلت العلاقة "العمالية" في تلك الفترة بين حزب "العمل" الإسرائيلي وأحزاب اليسار الأوروبية، أساساً متيناً اعتمدت عليه إسرائيل لسنوات، في تجنيد الدول الغربية الأوروبية لصالح تل أبيب.
في المقابل، كانت منظمة التحرير الفلسطينية، بعد القمة العربية في العاصمة المغربية الرباط 1974، تخطو خطواتها الأولى في نسج وإقامة علاقات مع أوروبا، قبل انهيار المعسكر الشرقي. وفي وقتٍ كان فيه الفلسطينيون، يبنون قوتهم وينشرون مواقفهم بشكل أساسي بالاعتماد على المعسكر الشرقي، كانت الأحزاب العمالية الأوروبية، حتى بعد قبول منظمة التحرير الفلسطينية "عضواً مراقباً" في الاشتراكية الدولية، تقف دائماً إلى جانب الموقف الإسرائيلي الرسمي، الذي عبّر عنه باستمرار حزب "العمل" الإسرائيلي، في مؤتمرات منظمة الاشتراكية الدولية.
اقــرأ أيضاً
وقد ظلّ هذا الموقف المؤيد تلقائياً لإسرائيل، المتأثر من الدعاية العمالية بكونها تمثل تجربة في تطبيق الاشتراكية الديمقراطية، التي تدمج بين ملكية عامة (ومحدودة) لوسائل الإنتاج وبين قطاع خاص، سائداً، بل وساهم في الضغط على هذه الأحزاب، خصوصاً تلك التي عادت منها للحكم في بلدانها.
استمر ذلك حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1993)، عندما طرأ تغيير معلن في تأييد هذه المنظومة الأوروبية للموقف الفلسطيني، ولكن ليس قبل انتزاع تنازلات فلسطينية بشأن التسليم بحق إسرائيل بالوجود واعتماد حلّ الدولتين، وصولاً إلى إعلان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في ستراسبورغ الفرنسية عام 1989، أن "الميثاق الوطني الفلسطيني بات لاغياً"، أو بعبارة عرفات "كادوك".
على امتداد هذه الفترة، وبفعل الصراع بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، مع تموضع إسرائيل في المعسكر الغربي، ظلت إسرائيل قادرة على احتمال وتحمل المواقف العمالية الأوروبية، التي لم تخرج عملياً عن الالتزام المسبق بأمن إسرائيل ووجودها وشكّلت دائماً حاجزاً أمام أي إدانة رسمية وفعلية لإسرائيل.
بعدها، ضربت موجة التغيير في السياسات الأوروبية، وتسارع سقوط أحزاب اليسار والعمال الأوروبية، حتى بعد عودتها جزئياً للحكم، كما في حالة غيرهارد شرودر في ألمانيا، وتوني بلير في بريطانيا في أوساط التسعينيات.
وقابلها في ذلك، انهيار "الحركة العمالية في إسرائيل" بعد سقوط إيهود باراك المدوي أمام آرييل شارون في انتخابات رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام 2001. ما أوجد واقعاً جديداً في إسرائيل ومشهداً سياسياً، يقوده اليمين الإسرائيلي الجديد بقيادة بنيامين نتنياهو، بانياً طموحاته وعلاقاته على أساس "إحياء عقدة الذنب الأوروبية" من جهة، وإهمال ورفض كل أشكال العلاقة، لأسباب أيديولوجية مع أحزاب اليسار الأوروبي من جهة أخرى.
في المقابل، فإن تراجع حركات وأحزاب العمال واليسار في إسرائيل، وتمكن اليمين الإسرائيلي ودعايته من ضرب ثقة هذه الأحزاب بنفسها، وبخطها السياسي العام، دفع حزب "العمل" (يُدعى المعسكر الصهيوني اليوم)، وحزب "ميريتس"، الذي يضمّ في صفوفه ثلاثة أحزاب، واحد منها كان عمالياً هو حزب "مابام"، إلى وقف نشاطها خارج إسرائيل مع أحزاب يفترض أنها تحمل المنظومة الفكرية العمالية، حتى لا تتهم بأنها باتت أحزابا غير صهيونية أو ما بعد صهيونية.
ولعل التناقض البنيوي أو الفكري الجوهري بين قيم الصهيونية وبين قيم حركات اليسار، ساهم بدوره في جمود حركات وأحزاب اليسار الإسرائيلية في موقعها المدافع عن الاحتلال وسياساته، مقابل انطلاق أحزاب اليسار الأوروبية، وبفعل الجيل الجديد، وتحررها من عقدة الذنب عن "الهولوكوست" (المحرقة)، باتجاه عدم التردد في انتقاد الممارسات والسياسات الإسرائيلية، وعدم التردد أيضاً، أو الخجل من مواجهة تهم "معاداة السامية واليهود" والإعلان بأن انتقاد ورفض الممارسات الصهيونية في الأراضي المحتلة، لا يشكل معاداة للسامية، ولا معاداة لليهود.
ومع تطور مواقف اليسار الأوروبي، وهنا بشكل لافت موقف "العمال" البريطاني، لجهة عدم الخوف من مواجهة تهم اللاسامية، تبرز حقيقة الدعاية الإسرائيلية الجديدة، ونشاط اللوبي الصهيوني في مختلف الدول الأوروبية، لشن حملة إعلامية مكثفة ضد مواقف الحزب البريطاني ونشطائه وتوجيه الاتهام لهم وللحزب، الذي وقف باستمرار إلى جانب إسرائيل. وتعتمد تلك الحملة على مسألة أن "العمال بات يضم لا ساميين وعنصريين وفاشيين"، ليكون ذلك بمثابة تحذير لباقي أحزاب اليسار الأوروبي مما ينتظرها في حال سارت على خطى "العمال" البريطاني.
اقــرأ أيضاً
مع العلم أنه في الأساس اعتمدت العلاقات الإسرائيلية الأوروبية، بشكل كبير، بعد قيام دولة الاحتلال، على كون إسرائيل جزءاً من المحور الغربي، على الرغم من وجود حكومة عمالية ترفع شعارات "الاشتراكية" في برامجها وسياساتها الاقتصادية والاجتماعية داخلياً، واعتمادها مبدأ "التدخل الكبير في حركة الاقتصاد"، وملكية القطاع العام لغالبية الشركات ووسائل الإنتاج.
وكان لـ"العمال"، وخصوصاً بين عامي 1964 و1979، عندما كان خارج الحكومة، حظوة كبيرة في أوساط الحكم الإسرائيلي. وشكّلت العلاقة "العمالية" في تلك الفترة بين حزب "العمل" الإسرائيلي وأحزاب اليسار الأوروبية، أساساً متيناً اعتمدت عليه إسرائيل لسنوات، في تجنيد الدول الغربية الأوروبية لصالح تل أبيب.
في المقابل، كانت منظمة التحرير الفلسطينية، بعد القمة العربية في العاصمة المغربية الرباط 1974، تخطو خطواتها الأولى في نسج وإقامة علاقات مع أوروبا، قبل انهيار المعسكر الشرقي. وفي وقتٍ كان فيه الفلسطينيون، يبنون قوتهم وينشرون مواقفهم بشكل أساسي بالاعتماد على المعسكر الشرقي، كانت الأحزاب العمالية الأوروبية، حتى بعد قبول منظمة التحرير الفلسطينية "عضواً مراقباً" في الاشتراكية الدولية، تقف دائماً إلى جانب الموقف الإسرائيلي الرسمي، الذي عبّر عنه باستمرار حزب "العمل" الإسرائيلي، في مؤتمرات منظمة الاشتراكية الدولية.
وقد ظلّ هذا الموقف المؤيد تلقائياً لإسرائيل، المتأثر من الدعاية العمالية بكونها تمثل تجربة في تطبيق الاشتراكية الديمقراطية، التي تدمج بين ملكية عامة (ومحدودة) لوسائل الإنتاج وبين قطاع خاص، سائداً، بل وساهم في الضغط على هذه الأحزاب، خصوصاً تلك التي عادت منها للحكم في بلدانها.
استمر ذلك حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 ـ 1993)، عندما طرأ تغيير معلن في تأييد هذه المنظومة الأوروبية للموقف الفلسطيني، ولكن ليس قبل انتزاع تنازلات فلسطينية بشأن التسليم بحق إسرائيل بالوجود واعتماد حلّ الدولتين، وصولاً إلى إعلان الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في ستراسبورغ الفرنسية عام 1989، أن "الميثاق الوطني الفلسطيني بات لاغياً"، أو بعبارة عرفات "كادوك".
على امتداد هذه الفترة، وبفعل الصراع بين المعسكر الغربي والمعسكر الشرقي، مع تموضع إسرائيل في المعسكر الغربي، ظلت إسرائيل قادرة على احتمال وتحمل المواقف العمالية الأوروبية، التي لم تخرج عملياً عن الالتزام المسبق بأمن إسرائيل ووجودها وشكّلت دائماً حاجزاً أمام أي إدانة رسمية وفعلية لإسرائيل.
بعدها، ضربت موجة التغيير في السياسات الأوروبية، وتسارع سقوط أحزاب اليسار والعمال الأوروبية، حتى بعد عودتها جزئياً للحكم، كما في حالة غيرهارد شرودر في ألمانيا، وتوني بلير في بريطانيا في أوساط التسعينيات.
وقابلها في ذلك، انهيار "الحركة العمالية في إسرائيل" بعد سقوط إيهود باراك المدوي أمام آرييل شارون في انتخابات رئاسة الحكومة الإسرائيلية عام 2001. ما أوجد واقعاً جديداً في إسرائيل ومشهداً سياسياً، يقوده اليمين الإسرائيلي الجديد بقيادة بنيامين نتنياهو، بانياً طموحاته وعلاقاته على أساس "إحياء عقدة الذنب الأوروبية" من جهة، وإهمال ورفض كل أشكال العلاقة، لأسباب أيديولوجية مع أحزاب اليسار الأوروبي من جهة أخرى.
ولعل التناقض البنيوي أو الفكري الجوهري بين قيم الصهيونية وبين قيم حركات اليسار، ساهم بدوره في جمود حركات وأحزاب اليسار الإسرائيلية في موقعها المدافع عن الاحتلال وسياساته، مقابل انطلاق أحزاب اليسار الأوروبية، وبفعل الجيل الجديد، وتحررها من عقدة الذنب عن "الهولوكوست" (المحرقة)، باتجاه عدم التردد في انتقاد الممارسات والسياسات الإسرائيلية، وعدم التردد أيضاً، أو الخجل من مواجهة تهم "معاداة السامية واليهود" والإعلان بأن انتقاد ورفض الممارسات الصهيونية في الأراضي المحتلة، لا يشكل معاداة للسامية، ولا معاداة لليهود.
ومع تطور مواقف اليسار الأوروبي، وهنا بشكل لافت موقف "العمال" البريطاني، لجهة عدم الخوف من مواجهة تهم اللاسامية، تبرز حقيقة الدعاية الإسرائيلية الجديدة، ونشاط اللوبي الصهيوني في مختلف الدول الأوروبية، لشن حملة إعلامية مكثفة ضد مواقف الحزب البريطاني ونشطائه وتوجيه الاتهام لهم وللحزب، الذي وقف باستمرار إلى جانب إسرائيل. وتعتمد تلك الحملة على مسألة أن "العمال بات يضم لا ساميين وعنصريين وفاشيين"، ليكون ذلك بمثابة تحذير لباقي أحزاب اليسار الأوروبي مما ينتظرها في حال سارت على خطى "العمال" البريطاني.