بموازاة الموقف السياسي الحازم الذي أبدته المعارضة التركية بمختلف أطيافها في رفض المحاولة الانقلابية، حيّد "العدالة والتنمية" جميع الخلافات العالقة، إذ دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قمة في القصر الرئاسي استجابت لها المعارضة التركية، ما ساهم في تخفيف الاستقطاب السياسي الحاد بشكل كبير. واستمرت القمة السياسية في القصر الرئاسي لأكثر من ساعتين ونصف الساعة، تناول فيها الرئيس التركي مع كل من رئيس الوزراء والحزب الحاكم، بن علي يلدريم، وزعيم حزب الشعب الجمهوري (كمالي)، كمال كلجدار أوغلو، وزعيم حزب الحركة القومية (يميني قومي متطرف)، دولت بهجلي، الإجراءات التي سيتم اتخاذها لإعادة هيكلة القوات الأمنية والجيش وتعزيز قبضة المدنيين عليها.
ويضاف إلى هذه الخطوات، إجراء بعض التعديلات الدستورية التي تستهدف إصلاح مؤسسات السلطة القضائية، وصولاً إلى الاتفاق حول استئناف عمل لجنة كتابة الدستور المدني الجديد، بمشاركة حزب الشعوب الديمقراطي (الجناح السياسي للعمال الكردستاني)، بعدما توقف عملها إثر انسحاب حزب الشعب الجمهوري، بسبب رفضه مناقشة التحول إلى النظام الرئاسي الذي يدفع باتجاهه حزب العدالة والتنمية.
وأسفرت المشاورات بين القيادات التركية عن توافقات كبيرة سهّلت بدء الحكومة التركية باتخاذ عدد من القرارات في إعادة هيكلة أجهزة الدولة، والتي أعلن عنها يلدريم، في وقت متأخر، أول من أمس الاثنين، بعد اجتماع مجلس الوزراء برئاسة أردوغان. ومن بين القرارات الجديدة، إتمام الخطوات النهائية لإلحاق كل من جهاز الدرك (المسؤول عن أمن الأرياف) وخفر السواحل بشكل كامل، ولأول مرة منذ تأسيس الجمهورية، بوزارة الداخلية، وبالتالي انتهاء مرحلة سحب الملفات الأمنية الداخلية في البلاد نهائياً من يد العسكر، وإخضاعها بشكل كامل للإدارة المدنية ممثلة بوزارة الداخلية، التي ستتولى تطهير هذه القوات من منتسبي حركة الخدمة وتدريبها وتعيين قياداتها وترفيعهم، تماماً كما يتم التعامل مع قوات الشرطة.
ويعني إلحاق قوات الدرك بالداخلية إغلاق ملف هذه القوات "الأسود" في التعامل مع المواطنين الأكراد جنوبي وشرقي الأناضول، ومن ثم دورها الرئيسي في المحاولة الانقلابية الفاشلة. بينما بقي ملف التعديلات الدستورية التي تم التوافق عليها بشكل غير واضح التفاصيل بعد، باستثناء طرح مشاريع عدة، من بينها إلغاء الادعاء العسكري، وإعادة هيكلة القضاء العسكري.
وبدأ مشروع إلحاق قوات الدرك وخفر السواحل بالداخلية التركية في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول 2014، في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو. ويعود تأسيس الدرك أو "الجندرمة" إلى العهد العثماني، في ما يطلق عليه "عصر التنظيمات"، بعد حلّ الجيش "الانكشاري"، وصدور قانون بتشكيل هذه القوات عام 1839، لتتولّى مهمة حماية الأمن في الأماكن التي لا تصلها قوات الشرطة، وهي في الغالب ريفية، وأيضاً حراسة الحدود والسواحل. وكان لهذه القوات دور هام في ملاحقة الفارين من الخدمة العسكرية الإلزامية، وقتال حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن مشاركتها في بعض العمليات العسكرية، كغزو جزيرة قبرص عام 1974.
وتأتي هذه الإجراءات في الوقت الذي جهزت فيه القوات المسلحة التركية تقريراً موسعاً للتحقيقات التي أجرتها في صفوف منتسبيها من أعضاء حركة الخدمة خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، وبالذات بعد العام 1985، وذلك تمهيداً لإقصائهم من خلال القرارات التي سيتخذها مجلس الشورى العسكري الذي سيجتمع في مقر رئاسة الوزراء، غداً الخميس. ويشير التقرير إلى الإدارات التي يسيطر عليها منتسبو حركة الخدمة وهي: القضاء العسكري، وإدارة الانضباط العسكري، والأكاديميات الحربية، وإدارة شؤون الأفراد.
على الصعيد السياسي، أدت قمة القصر الرئاسي إلى تشكيل جبهة موحّدة ضد حركة الخدمة، الأمر الذي بدا واضحاً في تصريحات كل من بهجلي وكلجدار أوغلو، يوم الثلاثاء. وبعدما شدد دولت بهجلي على موقف المساند للحكومة في اجتثاث حركة الخدمة من كل مؤسسات الدولة، وضرورة إخضاعها للقانون بشكل كامل، كان موقف كلجدار أوغلو واضحاً لناحية ضرورة ترحيل واشنطن للداعية غولن وتسليمه لتركيا.
وبعد الزيارة التي قام بها إلى أحد مقرات قوات الشرطة الخاصة في العاصمة أنقرة الذي تعرض لقصف الانقلابيين، أكد كلجدار أوغلو حصول التوافقات في قمة القصر الرئاسي، مشيراً إلى أن الشعب الجمهوري سيساهم في إجراء التعديلات الدستورية الضرورية لإصلاح السلطة القضائية. وقال كلجدار أوغلو إنّه "تم خلال القمة إطلاع أحزاب المعارضة على المعلومات الخاصة بالمحاولة الانقلابية، وعبّرنا عن رأينا في ما يخص التعديلات الدستورية الخاصة بالقضاء، وتم التوافق على الأمر، وسنسهم في إجراء التعديلات الدستورية التي تعزز استقلال القضاء في الدستور. أتمنى أن تجتمع الأحزاب السياسية خلال الأيام المقبلة لتحقيق ذلك".
وشدد كلجدار أوغلو على وجوب اتخاذ خطاب موحّد ضد حركة الخدمة التي تغلغلت في جهاز الدولة، قائلاً: "لأجل قيام تركيا مرة أخرى، لا بد من إنشاء خطاب موحد"، مضيفاً أنّه "لا بد لنا جميعاً أن نفكر ملياً بقيام حركة فتح الله غولن الإرهابية في التغلغل في الدولة، وبالذات ضمن القوات المسلحة التركية. قد نكون مختلفين في الآراء السياسية، لكن قيام جميع الأحزاب السياسية بتوحيد خطابها من أجل الديمقراطية هو أمر في غاية الأهمية".