ضمن مساعي فرنسا لنسج "إسلام فرنسي يتماشى مع العلمانية"، أطلقت الحكومة أخيراً "مؤسسة إسلام فرنسا"، التي ستفعّل نشاطها رسمياً في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. وقد حاورت "العربي الجديد" برنارد غودار، المستشار السابق لوزير الداخلية الأسبق جان بيار شوفينمان، والمكلّف السابق بملف المسلمين، في هذا الصدد. وكان غودار من بين المنسقين في لجنة التكوين في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية سابقاً. كما عمل لمدة عقدين حول مكانة الإسلام في فرنسا، ما جعل الإعلام الفرنسي يلقبه بـ "رجل فرنسا الخبير بالإسلام".
* هل فرنسا العلمانية، مطالبة اليوم بإعادة النظر في مسألة تسيير الديانة الإسلامية وإخضاعها لقوانين الدولة الفرنسية؟
أعترف بأنها عملية حساسة جداً لكن هذا لا يعني أنها مستحيلة، وبفضل التنسيق مع ممثلي المسلمين منذ سنوات عدة، تبيّن أن الأمر ممكن إذا تجاوزنا الخلافات الداخلية بين ممثلي الديانة الإسلامية من جهة وبين هذه الممثليات والحكومة الفرنسية من جهة أخرى، لصالح تفعيل مبدأ التعايش والمواطنة والمصير المشترك. منذ أكثر من ثلاثين عاماً تسعى الحكومة إلى تسهيل ممارسة الشعائر الدينية على أراضيها، وفي الوقت ذاته تحاول إدماج الديانة الإسلامية، لتكون مستقلة عن بلدانها الأصلية، خصوصاً أن فرنسا أصبحت مسقط رأس المسلمين المولودين فيها، أو المعتنقين حديثاً الديانة الإسلامية.
* ما مدى تدخل الحكومات المتعاقبة في تنظيم شؤون المسلمين؟
تعددت المحاولات لتنظيم الإسلام وتأطير تمويل المساجد في فرنسا. وقد بدأ هذا الأمر في عام 1989، حين ظهر "مجلس التفكير حول الإسلام في فرنسا" بمبادرة من بيار جوكس، وزير الداخلية آنذاك في الحكومة الاشتراكية. ثم بعدها بادر شارل باسكوا وزير الداخلية اليميني السابق إلى تأسيس "المجلس التمثيلي لمسلمي فرنسا" عام 1993، وبقيت هذه المبادرة حبراً على ورق. لتأتي بعدها مبادرة جان بيار شوفينمان، وزير الداخلية في حكومة ليونيل جوسبان الاشتراكية آنذاك، الذي قرر عام 1999 إجراء استشارة واسعة، مقترحاً مجلساً فرنسياً للديانة الإسلامية. كنت آنداك من بين المنسقين في لجنة التكوين لذلك المجلس، التي وفرت للحكومة اليمينية أرضية عمل حقيقية سمحت لوزير الداخلية التالي، دانيال فايان مواصلة العمل، الذي انتهى إلى تأسيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية عام 2003، بمساندة قوية من نيكولا ساركوزي، الذي خَلَفَ فايان في وزارة الداخلية عند تأسيس المجلس.
* ألا تجدون أن المسلمين لم يجدوا ضالّتهم بعد في كل هذه المبادرات، مما أدى إلى إيجاد صيغ أخرى لتفعيل "مؤسسة إسلام فرنسا"؟
على الدولة الفرنسية أن تسمح للمسلمين بالتعبير عن مشاغلهم وتوفير المساحات اللازمة لذلك. أما في شأن "مؤسسة إسلام فرنسا"، فقد تبيّن للحكومة أنه عليها إشراك مسؤولين ثقافيين وشخصيات من المجتمع المدني وبرلمانيين، بهدف تشكيل إسلام يتعايش مع قيم الجمهورية، وللتوصل إلى هيئة للإسلام في فرنسا ضمن مخطط وزارة الداخلية الفرنسية لمواجهة الفكر المتطرف. ويستدعي هذا جمع كل الأطراف والتشاور فيما بينها. كما لا يجب أن نغفل أن أية ديانة لديها حقيقتها التاريخية وأبعادها الحضارية وأيضا خلفيتها الثقافية الخاصة بها. الجديد في "مؤسسة إسلام فرنسا" هو الأخذ بعين الاعتبار جميع هذه الجوانب، من خلال ترقية مشاريع ثقافية يكون هدفها التعريف بالحضارة الإسلامية بين فئات المجتمع الفرنسي. إن "مؤسسة إسلام فرنسا" أُريد لها أن تؤدي دور المحاسب والمراقب في آن واحد، وذلك على الأموال الموجهة للمشاريع المتعلقة بالإسلام في التراب الفرنسي كمراكز التعليم وبناء المساجد. هذا لا يعني أنه سيتوقف دخول أموال من الخارج لنفس الغرض عن طريق فيدراليات أو جمعيات وإن كانت قليلة.
* لكن هذه المؤسسة تم إنشاؤها على أنقاض منظمة تأسست عام 2005 لتحقيق نفس الأهداف التي ذكرتموها، هل تم التوصل أخيراً إلى الوصفة السحرية؟
أخشى هنا أن تُستخدم الوصفة نفسها التي أفشلت "منظمة الأعمال الإسلامية"، التي تأسست عام 2005 بدفعة من دومينيك دو فيلبان وزير الداخلية اليميني السابق، وذلك بسبب الخلافات بين أعضائها. أخشى ذلك، لأن معضلة التطرف في فرنسا أعمق من أن يكون سببها فقط عائداً لتمويلات المساجد المجهولة الهوية. كما أن هذا لن يمنع دخول أموال من الخارج، كما ذكرت، من خلال الفدراليات والجمعيات الإسلامية أو حتى من طرف المانحين الذين لن يفضلوا المرور عبر الجمعية الرعوية، التي ستتكئ على "مؤسسة إسلام فرنسا"، التي سيُسمح لها جمع التمويل اللازم للمساجد التي سيتم بناؤها من قبل المسلمين. وهذا ربما ظناً منهم بأن هذه المؤسسة لن تعبّر فعلاً عن هواجس وانشغالات المسلمين.
ثانياً، لقد سبق أن اعترف مجلس الدولة الفرنسي بـ "منظمة الأعمال الإسلامية"، التي كان دورها أيضاً التكفّل بالمشاريع الإسلامية. غير أن ممثلي الديانة الإسلامية، من أعضاء مكتب المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية المشاركين في مجلس الإدارة للمنظمة اختلفوا فيما بينهم. أخشى أن يتكرّر نفس السيناريو اليوم. إن الجمعية الدينية التي ستتكئ على مؤسسة إسلام فرنسا، ستأخذ الشاكلة نفسها التي تكوّنت بها عام 2005. وستكون الحكومة مضطرة أن تستدعي كل الجهات لممثليات الجالية المسلمة في فرنسا، مثل مسجد باريس الكبير و"اتحاد المنظمات الإسلامية" و"تجمع مسلمي فرنسا" المقرب من المغرب. لكننا نعلم جيداً أن جميع هذه الهيئات لها بنيتها الخاصة بها، ومصادر تمويل خاصة بها، وكذلك ميزانياتها الخاصة التي تخصصها لدفع أجور الأئمة. ونعلم أنه سبق أن جميع هذه الجهات لم تقبل فكرة وضع أموالها في صندوق مشترك ولم تتفق في مسألة توظيف الأئمة. والسؤال هنا، كيف لهذه الأطراف أن تتوصل إلى اتفاق بقي عصياً منذ 2005؟
* ما رأيك في الجدل القائم حول منع لباس "البوركيني" في الشواطئ الفرنسية؟
ربما ما يسمى بقضية "البوركيني" سلّطت الضوء على الصعوبات التي تواجهها فرنسا العلمانية منذ فترة، لكن لا يجب أن ننسى من أين اندلع هذا الاشكال. لقد نشب في شواطئ البلدة الواقعة في إقليم الألب البحرية بمنطقة بروفنس ألب كوت دازور وبعد اعتداءات نيس. كما لا يجب أن نغفل عن أن جماعة اليمين الشعبوي في المنطقة مثل ليونيل لوكا، عمدة بلدة فيلينيوف لوبيت الفرنسية، ورئيس بلدية نيس السابق كريستيان أستروزي، استغلوا حالة الصدمة التي لا يزال سكان المنطقة تحت وقعها، كما استغلوا حالة الارتياب والتوتر اللذين لا يزالان سائدين، لتأجيج التوترات.
* هل أفهم من حديثكم أن مسلمي فرنسا اليوم أمام جدلية التطرف من جهة والخطابات الإسلاموفوبية من جهة أخرى؟
الإرهاب في الأخير أعمى يخبط خبط عشواء في فرنسا من دون تمييز بين الضحايا الذين من بينهم نجد المسلمين. هؤلاء ضحايا أيضا للصورة التي تلصق بهم، تحديداً منذ أن سعت فرنسا إلى التعريف بالهوية الفرنسية، خصوصاً بعدما توافد عدد هائل من اللاجئين إليها من العالم العربي. يجب إعادة النظر في طريقة تعاملنا مع المسلمين وفتح مجالات النقاش وكذلك إصلاح الهيئات التي تمثلهم، وتعزيز الصف والتكاتف في مواجهة خطر التطرف الذي لا علاقة له بالديانة الإسلامية، بل يسيء لها ولمعتنقيها من المواطنين الفرنسيين.
* هل أصبح المسلمون ورقة "أكثر ربحاً" للفوز في الانتخابات من خلال وجهة سلبية لا تخدمهم، بعدما كانت الجالية المسلمة تولي اهتماماً خاصاً مع حلول الاستحقاقات الانتخابية؟
الجنود الذين جاءت بهم فرنسا من مستعمراتها خلال الحربين العالميتين (1914 ـ 1918 و1939 ـ 1945) لتعزيز صفوفها كان يُطلق عليهم الجنود المسلمين أو "جنود المستعمرات". وما أن نتمعّن في هذه العبارة نلمس نوعاً من رفض إعطاء الجنود صفة المواطن الفرنسي، لا بل ننزع عنهم هذه المواطنة بمجرد ما نشير إلى أنهم "مسلمو فرنسا" أي قادمون من المستعمرات الفرنسية. هذا الجانب من التاريخ يكشف أمرين: الأول يكمن في أن فرنسا لم تكتشف الإسلام حديثاً، فهو إذا يمثل جزء من الذاكرة التاريخية لفرنسا. أما الأمر الثاني، فهو حين يُستخدم الإسلام والمسلمون كوقود لدفع عجلة انتخابية، هذا معناه أنه لا تزال هذه الفئة من السياسيين تُغَيِّب، وربما بشكل غير واعٍ، وطنيةَ مسلمي فرنسا.
نحن في حاجة ماسة اليوم وقبل أي وقت مضى إلى أن نقبل بمجتمع فرنسي يستوعب المسلمين كموطنين قبل أي شيء. وفي ذات الوقت نُسهّل عليهم ممارسة عقيدتهم في كنف الجمهورية. كما أن على المسلمين أيضاً استيعاب جوهر قانون فصل الدين عن الدولة حتى يتحقق التعايش والانسجام.
* عندما يُنصب وزير داخلية سابق (شوفينمان) غير مسلم على رأس "مؤسسة إسلام فرنسا"، أليس هنا نوع من ممارس الوصاية على المسلمين؟
لقد تحدثتُ شخصياً إلى شوفينمان عندما اقُترح عليه المنصب، وما فهمت منه هو أنه اختيرَ لقربه من العالم العربي، وكونه رجل دولة ولأنه مُطّلع على الملف بشكل كافٍ، ما يجعله يؤدي دورَ الوساطة بين الحكومة وممثلي الديانة الإسلامية. سيكون له دور في ضمان مرحلةٍ انتقالية للدفع بمؤسسة إسلام فرنسا، ثم سيترك الرئاسة لمرشح مسلم. لا ننسى أن شوفينمان سيكون لديه مدير عام ونائب مدير مسلمَين وسيعمل على إدارة المؤسسة مع الأعضاء الممثلين لها.
* وما قولكم في تصريحات شوفينمان عندما دعا المسلمين إلى "إخفاء دينهم"؟
أفهم جيدا أن هذا النوع من التصريحات قد يثير الجدل بل أنه يجرح مشاعر المسلمين. ورغم أن شوفينمان دافع عن تصريحاته مشيراً إلى أن العديد من الأئمة أسدوا النصيحة نفسها لمرتادي المساجد في فرنسا وعلى رأسهم طارق أوبرو إمام مسجد مدينة بوردو، إلا أنني أظن أنها هفوة ما كانت لتصدر منه، خصوصاً أنه الرجل الذي اختير على رأس مؤسسة تسعى إلى إدماج المسلمين في المجتمع الفرنسي، لا الحجب عنهم ووصمهم في هذه الظروف الحرجة التي تعيشها البلاد.