أصدر مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، أخيراً، مذكرة بحثية ترصد التحولات المتوقعة في سورية بعد الحرب، وتستشرف أنماط الحل المرتقب في سورية لجهة إضعاف الدولة الأم، حتى لو انتهت الحرب بانتصار نظام بشار الأسد، وبقاء الإطار الدولاني كقشرة خارجية تخفي تحت طياتها تشكيلة هجينة من أشكال الحكم في مناطق مختلفة في سورية، وفق مجموعة المصالح الإقليمية والدولية وموازين القوى الداخلية في سورية نفسها. وجاءت المذكرة في أكثر من 60 صفحة، وتتناول السيناريوهات المرتقبة لحل الأزمة السورية، والواقع المتشكل على أثرها. وهي لا ترى نهاية قريبة للحرب حتى لو سادت اتفاقيات خفض مناطق التوتر وشملت كل أنحاء سورية، بل ترى أن الحرب ستنتقل إلى حالة، أو مرحلة ثانية، من استمرار القتال في مناطق معينة، رغم انتظام الحياة في أنحاء أخرى، تماماً على غرار ما يحدث مثلاً في أفغانستان.
وبحسب الدراسة- المذكرة، التي وضعها عدد من الباحثين في المركز، فإن العدد الكبير للأطراف والجهات الناشطة في سورية، سواء من أطراف دولية أو إقليمية أو محلية، التي ترغب، بالرغم من تناقض المصالح بينها، بالإبقاء على الغلاف الخارجي لدولة واحدة في سورية، ولو ظاهرياً، يعزز احتمالات تكريس هذا النمط، على الأقل على الصعيد الرسمي في الخطاب الدولي. لكن بقاء أو تكريس حكم مركزي يبسط سيطرته على مجمل أراضي الدولة بات بمثابة سيناريو تتضاءل فرص تحقيقه على أرض الواقع، بينما تزداد فرص تطور منظومة حكم شائكة متعددة الأطراف. وترى المذكرة أن ما يعزز هذا السيناريو، ويرجح تحققه وليس غيره، هو تبلور وتكريس مناطق، أو جيوب، داخل سورية تحكمها أطراف مختلفة لها مصالح متضادة، راكمت خلال الحرب قوة وتأثيرا، ستنعكس بالتالي في اتفاق السلام الدائم بحسب موازين القوى الداخلية، ومن يدعمها من الخارج، لكن لن يكون بمقدور الاتفاق أن يضمن الهدوء التام، بل ستتواصل الاشتباكات الموضعية في مناطق مختلفة لسنوات طويلة (نموذج أفغانستان).
يفضي هذا الواقع، بحسب المذكرة، إلى التأسيس لنظام سياسي شائك، يقوم على وجود حكم مركزي ضعيف ومراكز حكم محلية (مناطقية- مثل حكم ذاتي في الشمال للأكراد)، إلى جانب تدخل ونفوذ كبيرين للأطراف الخارجية. وتحدد المذكرة جملة من العوامل ذات التأثير الاستراتيجي على السيناريوهات المختلفة المستقبلية. يقف على رأس هذه العوامل نتائج القتال والتطورات في القتال الميداني بين قوات النظام وبين فصائل الثورة والجهات المقاتلة المختلفة. والعامل الرئيس الثاني صاحب التأثير الكبير أيضاً، هو حجم التدخل الروسي في سورية ونوعية هذا التدخل. والعامل الثالث في هذه المعادلة للتأثير على مستقبل سورية يتصل أيضاً بطبيعة الحال بحجم وطبيعة الدور الإيراني المستقبلي. ويشكل مستقبل تنظيم "داعش" وقوته ووجوده على الأرض، عاملاً رابعاً. أما العامل الأخير فيتعلق بمدى قدرة واستعداد فصائل المعارضة المختلفة على التعاون في ما بينها، وربما الوصول إلى توحيد صفوفها. وفي هذه النقطة ترى المذكرة أن هذه القوى في وضع لا تقوم فيه بالسعي لتوحيد صفوفها فحسب، بل إنها تقاتل بعضها البعض، فيما يزيد الخصم الشيعي مراكمة قوة استراتيجية، وليس فقط ميدانية.
وفي رسمها للتشكيلة الهجينة لأشكال الحكم، ترى المذكرة أن روسيا وإيران ستسعيان لتكريس نظام حكم علوي، فيما لن تسارع الولايات المتحدة لضرب بقاء نظام الأسد حالياً بشرط ألا يبقى الأسد في المرحلة التي تلي المرحلة الانتقالية التي سيتم خلالها رسم ملامح سورية المستقبل. كما أن السعودية وتركيا لن توافقا على بقاء النظام العلوي على ما هو عليه، لأن معنى ذلك بقاء هيمنة علوية- شيعية في سورية تحت رعاية وحماية إيرانية. في المقابل، فإن المذكرة ترى أن سيناريو تشكيل نظام حكم سني في سورية اليوم، هو حلم بعيد المنال في الظروف الحالية، وكي يصبح هذا السيناريو واقعياً ينبغي بداية تحقيق مصالحة ووحدة صف بين مختلف الجماعات والفصائل السنية، بما يحولها إلى كتلة كبيرة هائلة تمكنها من الإطاحة بنظام الأسد، لكن سيفتح السؤال أمام طبيعة وشكل الدولة المقبلة في سورية، وهل ستكون علمانية أم سنية "إخوانية" أم سلفية، وفي كل الحالات فإن روسيا قد توافق على التعايش مع مثل هذا النظام فقط في حال أقر لها بمواصلة السيطرة على مواقعها الاستراتيجية في سورية وعلى شواطئ المتوسط.
لكن البديل الذي تعتبره المذكرة الأكثر واقعية هو البديل الفدرالي، أي دولة اتحادية، تعكس بالضرورة اعترافاً من الحكم المركزي بالجماعات والمجموعات المختلفة، عرقياً ومذهبياً، في المناطق المختلفة من سورية، وينطلق من الإقرار بأنه ليس بمقدور أي مجموعة حسم المعركة أو الحرب عسكرياً. ويقوم هذا البديل الفدرالي، على الإبقاء على الغلاف الخارجي لسورية كدولة واحدة، فيها وحدات فدرالية مختلفة، موزعة إما جغرافياً أو عرقياً ومذهبياً، وهو حل قد يصبح صاحب الكفة الراجحة في حال حظي بدفعة قوية من القوتين العظميين، الولايات المتحدة وروسيا، إذا اقتنعتا أنه لا بديل آخر لإنهاء الحرب. وترى المذكرة، في هذا السياق، أن روسيا، ولغاية منتصف العام الحالي، عملت وتعمل لتطبيق وتكريس هذا الخيار الاتحادي، الفدرالي، لضمان مواقعها على الساحل السوري. وكي تضمن روسيا ذلك فهي بحاجة لحليف علوي على امتداد الساحل السوري. ويمكن الافتراض بأن الولايات المتحدة، قد تكون على استعداد لقبول مثل هذا الخيار لضمان بقاء وحدة الأراضي السورية من جهة، وقدرتها على الوفاء بتعهداتها للأكراد في شمال سورية بمنحهم نظام حكم ذاتي ضمن الدولة (الغلاف) السورية.
وتركز المذكرة بشكل خاص على هذا النموذج الفدرالي، باعتبار ما تراه الخيار الأكثر واقعية في ظل موازين القوى، والذي سيكون تحديد العلاقات بين أطرافه المختلفة وبين الحكم المركزي فقط بعد تحديد التقسيم الجغرافي للكانتونات ذات الحكم المحلي، وهو سيناريو قد يلقى قبولاً سعودياً، خصوصاً أن السعودية وتركيا لن تقبلا بتفكيك الدولة السورية، من جهة، كما أن الرياض ستسعى لتكريس نفوذ وتأثير في المناطق السنية، مع سعي لضمان تقليص مساحة المناطق الخاضعة للحكم العلوي والتأثير الإيراني. وبدورها فإن إيران لن تتخلى لا عن مصالحها ولا عن دورها كحامية للأقلية الشيعية والعلوية في سورية، ولا عن مطامعها بتكريس ممر بري عبر العراق إلى سورية وسواحل المتوسط. ومع أن هذا التصور لنظام فدرالي وتشكيلة هجينة من أنواع الحكم، يتصدر توقعات وتقديرات المذكرة الرسمية لمركز أبحاث الأمن القومي، فإنها لا تستبعد أيضاً تقسيم سورية على أرض الواقع، بما يعكس موازين القوى الداخلية والعسكرية داخل البلد.
إلى ذلك، لا تسقط المذكرة من حساباتها أن يستمر القتال داخل سورية، وألا يكون الحل في الأفق، أيضاً بفعل مصالح لدول إقليمية وقوى دولية. وهي ترى في مثل هذه الحالة أن القتال سيستمر ويتواصل، وإن كان بقوة مختلفة، مع ارتفاع ألسنة اللهب من حين إلى آخر وانخفاضها، تبعاً للتطورات، فالدول الإقليمية (السعودية وتركيا وإيران) تملك مصالح مختلفة في ذلك، أبرزها أن استمرار الحرب يشكل رسالة واضحة لمواطني هذه الدول من مخاطر خوض غمار التمرد على الحكم، حتى لا يصيبهم ما أصاب السوريين.