لم تكن الطفلة سحر ضفدع أول ضحايا هذا الحصار، ولن تكون الأخيرة وفق المؤشرات الظاهرة، مع تشديد النظام من مخططه لخنق سكان الغوطة الشرقية قرب دمشق، إذ دخل هذا الحصار مرحلة جديدة في الأيام الأخيرة، يصفها السكان بـ"أسوأ مرحلة" يعيشونها منذ بداية الثورة، ففُقدت أصناف كثيرة من المواد الغذائية الأساسية، في حين ارتفعت بشكل كبير أسعار ما تبقى من السلع في الأسواق، كما بدأ مخزون الأدوية الأساسية بالنفاد، وسُجلت حالات وفاة أطفال نتيجة أمراض منها سوء التغذية، مع استحالة الحصول على العلاج المتوفر على بُعد خمسة كيلومترات في مستشفيات دمشق التابعة للنظام.
الحصار المفروض على الغوطة الشرقية قرب دمشق، والذي كان قد ضُرب بإحكام في النصف الثاني من سنة 2013، يدخل في سياق الأسلحة التي يستخدمها النظام لضرب أي بيئة شعبية حاضنة للثورة ضده، منذ مارس/آذار 2011. لكن يبدو أن لسلاح "الجوع أو الركوع"، خصوصية في دوائر صناعة القرار في دمشق، فتكاليفه على النظام مقارنة بالقصف والطلعات الجوية والعمليات العسكرية الهجومية، تصل إلى الصفر تقريباً، مقابل نتائج كبيرة، ترسخها منهجية التجويع في نفوس أصحاب الأمعاء الخاوية، الذين يُراد لهم أن يُضطروا قسراً، للخضوع من أجل البقاء.
الجوع والمرض قتلا العشرات
يوم الأحد الماضي 22 أكتوبر/تشرين الأول، لفظت الطفلة سحر ضفدع آخر أنفاسها، بعد حياة قصيرة دامت خمسة أسابيع، ونشر صورتها آلاف المستخدمين في وسائل التواصل، بعد أن التقطها مصور متعاون مع وكالة "فرانس برس" في مستشفى بالغوطة الشرقية، قال أطباؤه إنها عانت مرض سوء التغذية الحاد قبل وفاتها، وكانت تزن أقل من كيلوغرامين.
وأوضح يحيى أبو يحيى، وهو الطبيب الذي يعمل في منظمةٍ تُشرف على المستشفى حيث توفيت سحر، أن "العناصر الغذائية الأساسية التي يجب أن تتوفر للأمهات المرضعات غير متوفرة، وتعاني أغلبهن من فقر دم ونقص في الفيتامينات"، متابعاً في حديثٍ لـ"فرانس برس" أن "أجسامهن ضعيفة وبالتالي أجسام الأطفال ستكون هزيلة وضعيفة"، فضلاً عن أن الظروف المعيشية السيئة للأطفال، وعدم حصولهم على مياه الشرب المُعقمة، يضاعف مخاطر تعرضهم للأمراض.
سحر ضفدع وحيدة والديها، لحقت بحسب ما يؤكد أبو وسام الغوطاني، أحد أبرز ناشطي القطاع الأوسط في الغوطة، لـ"العربي الجديد"، بطفلٍ آخر اسمه عبيدة، توفي قبلها بيومٍ واحد، في مركز "الحكيم" الطبي في بلدة حمورية وسط الغوطة، جنوب كبرى مدنها (دوما) بخمسة كيلومترات؛ وسبقهما خمسة حالاتٍ مماثلة، لأطفال دون عمر الستة أشهر، توفوا خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط، نتيجة أمراضٍ لا تتوفر أدويتها.
استفحال الخطر على حياة أطفال آخرين، في المنطقة المحاصرة، دفع منظمة "يونيسف" للتحذير من مخاطر تهدد حياة أكثر من 1100 طفل، يعانون سوء التغذية بحسب إحصائيات المنظمة الدولية، التي أجرت مسحاً شمل نحو تسعة آلاف طفلٍ آخرين، استطاعت الوصول إليهم.
ويقول مدير "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، فضل عبد الغني، إن الشبكة وثّقت وفاة "ما لا يقل عن 397 مدنياً بينهم 206 أطفال و67 سيدة في الغوطة الشرقية بسبب الجوع ونقص الأدوية منذ بدء الحصار قبل 5 سنوات"، مشدداً في حديث لـ"العربي الجديد"، على أن "معظم هذه الوفيات سُجلت بين الفئات الهشة، كالأطفال الرضع، وكبار السن، والمرضى، وجرحى أصيبوا في عمليات القصف المتكرر، ولم توجد أدوية كافية لعلاجهم، كما انعكس الحصار بشكل كبير على النساء الحوامل، اللواتي عانين من فقر الدم، كما سجلنا عدداً من حالات التشوه الخلقي".
جيوبٌ فارغة وأسعار هائلة
كانت أسعار السكر مثلاً في الغوطة قبل اشتداد الحصار حالياً، مستقرة ما بين خمسمائة وثمانمائة ليرة سورية، لكن قبل يومين وصل سعر كيلوغرام السكر إلى أكثر من خمسة آلاف ليرة سورية (نحو 10 دولارات) في أسواق الغوطة الشرقية، بينما لا يتعدى ثمنه في أسواق دمشق القريبة هذه الأيام 300 ليرة سورية (نحو 60 سنتاً أميركياً)، أي أن السعر في الغوطة التي يحاصرها النظام، ارتفع بعد اشتداد الحصار لنحو 17 ضعفاً عن سعر السلعة نفسها في أسواق دمشق الخاضعة للنظام. لكن ماذا عن الخبز؟
وصل ثمن ربطة الخبز المدعومة من النظام في دمشق المجاورة للغوطة، وسائر مناطق سيطرة النظام، في أغلى سعرٍ، وهو المعتمد منذ أكتوبر/تشرين الأول 2015 حتى الآن، إلى خمسين ليرةٍ سورية (نحو 10 سنتات فيما وزن الربطة 1600 غرام)، في حين أن ثمن ربطة الخبز في الغوطة الشرقية، تجاوز هذه الأيام حاجز الألف ليرة سورية (نحو دولارين أميركيين والوزن بين 800 وألف غرام).
تجدر الإشارة إلى أن قائمة أسعار المواد الغذائية في الغوطة الشرقية، باتت غير مستقرة في الأسابيع القليلة الماضية، إذ تتغير نحو الارتفاع يومياً، وأحياناً تتغير في اليوم الواحد؛ فسعر السكر وربطة الخبز المذكور مثلاً، هو ما استقرت عليه الأسواق مساء الثلاثاء، وصباح الأربعاء الماضي.
كما أن الفرق الشاسع في الأسعار بين الغوطة المحاصرة، ودمشق البعيدة مئات الأمتار عنها، يرتفع في سلعٍ معينة كالسكر والملح والحبوب والخبز والزيوت وغيرها، لكنه ينخفض في مواد غذائية أخرى، كاللحوم مثلاً، على اعتبار أن الغوطة هي منطقة زراعية تُربى فيها المواشي؛ وهذا لا يعني أن أسعار اللحوم في الغوطة تحت قدرة القوة الشرائية فيها، إذ يصل سعر كيلوغرام لحم الغنم إلى نحو ستة آلاف ليرة سورية (نحو 12 دولاراً أميركياً).
ويقول أبو وسام الغوطاني، الناشط المقيم في حمورية وسط الغوطة، لـ"العربي الجديد"، إن "هذه الأسعار الجنونية، تفوق قدرة الأهالي بأضعاف... تخيل أن سعر بيضة الدجاج الواحدة يصل إلى 300 ليرة (6 سنتات) وليتر الزيت البلدي يصل سعره لعشرة آلاف ليرة (نحو 20 دولاراً)"، مضيفاً أن "معظم الناس هنا تقتات من الزراعة والصناعات اليدوية والخفيفة، والمهن الحرفية، والبيع والشراء في الأسواق الشعبية، والقلة تعيش على رواتب عملها في منظمات إغاثية وطبية".
من جهته، يوضح الأربعيني علي العربيني، وهو رب أسرة من خمسة أشخاص في الغوطة لـ"العربي الجديد"، بأن "كل أسرة عدد أفرادها أربعة أشخاص تحتاج لخمسة وأربعين ألف ليرة (نحو 78 دولاراً) شهرياً لشراء الخبز فقط، بينما دخل معظم الأسر لا يصل إلى سبعين ألف ليرة (نحو 135 دولاراً) شهرياً"، هذا "فضلاً عن الأسر التي لا دخل شهرياً لها، بعد أن فقدت مُعيلها بالقصف والغارات والمعارك".
وضع كارثي
وانتشرت حملة على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي منذ أسبوع تحت وسمَي: #الأسد_يحاصر_الغوطة و#الغوطة_تستغيث، أطلقها ناشطون سوريون في الغوطة الشرقية، بينهم يوسف البستاني، الذي كان يدرس في كلية الهندسة في جامعة دمشق، قبل أن يتحول إلى مصور وناشط إعلامي في المنطقة المحاصرة التي ينحدر منها، ويأمل في إيصال أصوات الأهالي إلى المنظمات الإغاثية والدولية.
يقول البستاني المقيم في مدينة دوما لـ"العربي الجديد"، إن "مياه الشرب غير متوفرة بشكل جيد، والأدوية شبه مفقودة، ومرضى كُثر قد يفقدون حياتهم نتيجة عدم توفر العلاج الذي يحتاجون إليه، وأسعار المواد الغذائية في الأسواق ملتهبة، والبطالة منتشرة بأرقامٍ مخيفة، وهناك آلاف الجرحى الذين يحتاجون لعلاجٍ ولا يقوون على العمل. لا أعرف ماذا أقول، الوضع بلغ حداً كارثياً غير مسبوق".
ويلخص الناشط مطالب السكان بـ"إنهاء الحصار، وإدخال المواد الغذائية، لتنخفض الأسعار وتنتعش الأسواق، فتتقلص نسب البطالة معها، إضافة إلى السماح للمرضى بالخروج للعلاج عبر طرقٍ آمنة، فهناك مئات الحالات التي يجب أن يتم علاجها فوراً"، مضيفاً: "كل يوم جديد من الحصار يفاقم الكارثة المُتعاظمة أساساً".
وينتقد تباطؤ وعدم تحمّل الأمم المتحدة مسؤولياتها حيال "الكارثة"، قائلاً: "منذ أسابيع لم نرَ أو نسمع شيئاً من الأمم المتحدة، وآخر مرة أدخلوا فيها المساعدات في سبتمبر/أيلول، كانت السلة الغذائية المكتوب عليها أنها مخصصة لعائلة واحدة، لا تكفي الاحتياجات، وعندما نقول لموظفي المنظمة إن ما تقدّمونه لا يكاد يسد الرمق، يهمسون لنا بأن النظام لا يسمح لهم بإدخال كميات أكبر من المساعدات". ويأمل أن تصل حملة الاستغاثة لـ"الشعوب الحرة النابضة بالإنسانية، عسى أن يتحرك أحدٌ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فنحن لا نريد إلا موقفاً إنسانياً".
لماذا تعاظمت المأساة الآن؟
تُحاصر قوات النظام الغوطة الشرقية منذ نهاية سنة 2012، وأحكمت هذا الحصار تماماً في النصف الثاني من السنة التالية، بعد مجزرة الغوطة الكيميائية (21 أغسطس/آب 2013)، التي قُتل فيها أكثر من ألف وأربعمائة شخص؛ وكانت المواد الغذائية وحركة تدفق البضائع للغوطة، تتم عبر عدة طرق. أبرز هذه الطرق، كانت شبكة الأنفاق، بين الغوطة وأحياء تشرين وبرزة والقابون، التي كانت تسيطر عليها فصائل المعارضة وتمرر عبرها مواد غذائية للغوطة. لكن اقتحام النظام لهذه الأحياء وإخضاعها لنفوذه، حرم الغوطة من الكميات الكبيرة من المواد الغذائية والسلع التجارية المختلفة التي كانت تمر عبر الأنفاق.
كما أن هناك طرق تهريب فرعية عبر الأراضي الزراعية، كانت تكسر حصار النظام جزئياً، قبل أن يضع الأخير يده عليها أيضاً، ليبقى الممر الوحيد لدخول البضائع والمواد الغذائية والمحروقات وغيرها، هو معبر الوافدين الذي يسيطر عليه النظام، وكانت حواجزه تتعامل مع شبكة تجارٍ، وتشترط دفع "أتاواتٍ" ضخمة.
هذه "الأتاوات" الضخمة، هي التي تتسبّب بالارتفاع الكبير للأسعار في الغوطة؛ والجديد الآن، هو أن حواجز النظام ترفض إدخال المواد الغذائية والسلع بأسعار "الأتاوات" السابقة، إذ علمت "العربي الجديد" من مصادر خاصة، أن مسؤولي النظام "يشترطون الآن دفع عشرة مليارات ليرة سورية لإدخال خمسة آلاف طن بضائع ومواد غذائية إلى الغوطة، وقد أرسل تاجر في دمشق من آل القطان لتجارٍ في الغوطة يخبرهم بذلك". ويؤكد يوسف البستاني لـ"العربي الجديد" صحة هذه الرواية، مضيفاً أن "الصفقة برمتها تُدار من أعلى المستويات بالنظام".
وجهة نظر النظام
لا تعلق وسائل إعلام النظام الرسمية عادة على أخبار الفقر المدقع وضحايا الجوع والمرض في المناطق المحاصرة، غير أنها تُنكر هذا الواقع تصريحاً أو تلميحاً، عندما تستحوذ القضية على اهتمام الرأي العام غير السوري (كما حصل مع مأساة بلدة مضايا مثلاً)، وتستمر بمنهج شيطنة سكان كل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، بحيث يجب التعامل معهم جميعاً كـ"إرهابيين". لكن يمكن استشفاف الموقف من وسائل إعلام "رديفة"، وغير رسمية، يملكها متنفذون في السلطة، كإذاعة "شام اف ام" مثلاً، التي حددت عبر تقريرٍ لها أخيراً، سيناريوهين للغوطة.
واستقت الإذاعة المملوكة من رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، هذين السيناريوهين من "مصادر عسكرية". ووفق الإذاعة فـ"السيناريو الأول هو عمل عسكري واسع، وهذا مستبعد حالياً لأن القيادة السياسية والعسكرية ملتزمة بالقرارات الصادرة عن المؤتمرات الدولية وبشكل خاص أستانة". أما السيناريو الثاني "المحتمل في المنطقة، فهو تسوية سياسية شاملة أو مصالحة لكل الغوطة الشرقية، في حين يبدو أن هذا مستبعد جزئياً، بسبب وجود فصائل مسلحة في الغوطة ترفض مبدأ الاتفاق والتسويات، وتحديداً هيئة تحرير الشام (التي تشكل جبهة النصرة أبرز فئاتها)"، مرجحة أن "السيناريو الأخير هو الأقرب للتنفيذ، وسيتم بعمل عسكري ضمن مناطق جزئية وتسوية أو مصالحات في مناطق أخرى".
وفي دلالةٍ ثانية توضح موقفاً غير رسمي للنظام حيال قضية مأساة نحو تسعين ألف عائلة سورية في الغوطة، عبّرت صفحاتٌ محسوبة على النظام، ولها جماهيرية واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن حالة تشفّ بما آلت إليه أوضاع الغوطة. فصفحة "دمشق الآن" مثلاً، المعروفة بتأييدها المطلق لنظام الأسد، ويتابعها أكثر من مليون وسبعمائة ألف شخص، وبينما كانت تُغطي باهتمام كبير خلال الأسبوع الأخير أخبار انخفاض أسعار سلع غذائية في العاصمة السورية، نشرت قائمةً لأسعار المواد الغذائية في الغوطة، والتي تبلغ أضعاف سعرها في دمشق، لتنهال تعليقات مئات المتابعين بالشماتة "ألا يريدون الحرية؟ ليدفعوا الثمن"، بينما اكتفى عدد محدود بإبداء تعاطفٍ مع سكان الغوطة.
"خفض التصعيد" الوهمي
وتسيطر فصائل تتبع بعضها للجيش السوري الحر، على الغوطة الشرقية منذ خمس سنوات، لتُفرز تطورات هذه الفترة تآكل المجموعات الصغيرة، وسيطرة فصيلين كبيرين طردا آخر تواجدٍ لـ"داعش" في الغوطة قبل نحو سنتين، هما "جيش الإسلام" و "فيلق الرحمن"؛ كما هناك تواجد "محدود وغير مؤثر" بحسب ناشطي الغوطة لمجموعاتٍ صغيرة، ولـ"حركة أحرار الشام"، وعشرات العناصر من "هيئة تحرير الشام".
ووقّع "جيش الإسلام"، في القاهرة قبل نهاية يوليو/تموز الماضي، اتفاقاً مع مسؤولين روس من المفروض أن ينتهي بموجبه حصار الغوطة وتدخل في مناطق "خفض التصعيد". كما أُبرم اتفاقٌ مماثل في جنيف يوم 18 أغسطس/آب الماضي، بين مسؤولين روس و"فيلق الرحمن"، لكن قوات النظام ومليشيات تساندها، شددت حصار الغوطة، وواصلت شن عملياتها العسكرية في محاور عين ترما-جوبر، وحوش الضواهرة-الريحان، على الرغم من دخول الاتفاقين حيز التنفيذ.
ويقول الناشط السياسي محمد صالح الشامي إن "أسوأ ما في هذه الاتفاقيات أنها تتم بضمانة روسيا التي تدعم النظام اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، ولكن الأبشع من ذلك، أن القاهرة رعت الاتفاق الأول"، مضيفاً: "هذه الاتفاقيات ما هي إلا حبرٌ على ورق وملء وقت سياسي؛ إذ كيف لروسيا شريكة النظام أن تكون ضامناً، ولمصر السيسي أن تكون راعياً؟".